الأساطير الأفريقية:
دراسة اجتماعية–نفسية–فلسفية
في المخيلة الإنسانية
مقدمة
تمثل الأساطير الأفريقية (African Mythology) مرآةً لروح القارة السوداء، حيث تتداخل فيها العادات والتقاليد مع المعتقدات الدينية والخيال الجمعي، لتعكس رؤية الإنسان الأفريقي للعالم ولذاته ولما وراء الطبيعة.
وإذا كانت الحضارات الكبرى في الشرق والغرب قد تركت أنظمة أسطورية شبه متماسكة، فإن أفريقيا لم تعرف منظومة أسطورية موحّدة؛ فالقارة التي تضم أكثر من ألفي لغة وآلاف الجماعات العرقية والثقافية، أفرزت تنوعاً أسطورياً يوازي تنوعها العرقي واللغوي. ومع ذلك، ثمة خيوط رمزية مشتركة تتكرر عبر هذا التعدد، فتمنح للأساطير الأفريقية طابعاً إنسانياً كلياً، يتقاطع مع أساطير الشعوب الأخرى في موضوعات الخلق والموت والشر والخلاص.
البعد الاجتماعي والنفسي للأساطير
الأساطير الأفريقية ليست مجرد قصص تُروى، بل هي نظام رمزي يوجّه السلوك الجمعي ويؤطر علاقة الفرد بالجماعة وبالعالم. فهي تفسّر نشوء الكون، وتحدد موقع الإنسان بين القوى الغيبية، وتشرعن النظام الأخلاقي والاجتماعي.
ومن هنا فإنها تمثل ذاكرة جماعية تحفظ القيم الأساسية: الشجاعة، الكرم، التضحية، والإيمان بالعدل الكوني.
نفسياً، تتجسد في الأساطير صراعات الإنسان مع الموت والقدر، وقلقه من الفناء، ورغبته في الخلود. فالموت يظهر أحياناً قوة أصلية سابقة على الإله (كما في أسطورة الكونو)، وأحياناً يبدو نتيجة خطأ الإنسان (كما في أساطير البيني). هذه التمثلات تكشف عن نزعة فلسفية عميقة تحاول التوفيق بين الوجود والفناء، بين الحرية والقدر.
الحيوان كشخصية أسطورية
في الميثولوجيا الأفريقية يحتل الحيوان مكانة مركزية، ليس بوصفه كائناً بيولوجياً فحسب، بل كرمز أخلاقي وروحي.
العنكبوت يصبح داهية حكيمًا، والثعبان يقدَّس باعتباره قوة إلهية، والحرباء رمز للتقلب والتحول.
إنها شخصيات رمزية تحمل أبعاداً نفسية: فالحيوان يجسد الغرائز المكبوتة، أو الفضائل المأمولة، أو حتى الشر الكامن. وفي ذلك يقترب المخيال الأفريقي من سيكولوجيا يونغ، حيث تتجسد "النماذج الأولية" (Archetypes) في صور حيوانية.
أساطير الخلق: رمزية البدء والنهاية
تتنوع روايات الخلق في أفريقيا حدّ الإدهاش:
• في أسطورة دونداري (من مالي)، يولد العالم من قطرة حليب، ويتناوب العمى والنوم والقلق والموت في سلسلة وجودية تكشف مأساة الكبرياء الإنساني.
• عند بعض شعوب نيجيريا، يخلق الرب الإنسان من طين، كما في النصوص التوراتية.
• لدى الوايانكوا من تنجانيقا، تصبح "الكلمة" هي القوة الباعثة على الخلق، في مقاربة فلسفية تقارب اللوغوس الإغريقي.
• أما أسطورة القمر (من روديسيا) فتربط الخصب والولادة بالحياة الجنسية للقمر ونجمة الصبح ونجمة المساء، لتجعل من النبات والحيوان والبشر امتداداً لجدلية الرغبة والموت.
هذه القصص ليست مجرد حكايات، بل تصورات وجودية تحاول الإجابة عن أسئلة الإنسان الأزلية: من أين جئنا؟ ولماذا نموت؟ وما سرّ الشر والخطيئة؟
المقارنة الفلسفية والرمزية
يبدو أن المخيلة الإنسانية، رغم اختلاف البيئات، تلتقي في رموز كونية: الطوفان، البرج، الشجرة الكونية، الصعود والسقوط، الخطيئة والفداء.
إن وجود أساطير الطوفان عند الإسكيمو كما في وادي النيل، أو فكرة خلق الإنسان من الطين في أفريقيا كما في المشرق، يعكس وحدة التجربة الإنسانية أمام الوجود.
الأساطير هنا ليست مجرد "خيال بدائي"، بل فلسفة شعرية تُترجم القلق الكوني للإنسان في صور رمزية.
الأدب الشفوي والأسطورة في الرواية الأفريقية
انتقل التراث الشفاهي الأفريقي مع تجارة العبيد إلى العالم الجديد، ليغدو جزءاً من الأدب الكاريبي والأميركي الأفريقي. وقد شكّل هذا التراث أرضية خصبة للرواية الأفريقية الحديثة، التي مزجت جماليات الأسطورة والحكاية الشعبية مع تقنيات السرد الأوروبي.
فأعمال أمثال بيراجو ديوب، برنار داديه، وكامارا لاي، ليست مجرد محاولات أدبية، بل مقاومة ثقافية لإحياء الذاكرة الجماعية، وتأكيد الهوية الأفريقية في مواجهة الاستعمار والتغريب.
إن الرواية الأفريقية الحديثة تنهل من الأسطورة بوصفها لغة رمزية لتصوير الواقع، وبوصفها أداة لفهم الذات والتاريخ. وكأنها تؤكد أن المستقبل لا يمكن أن يُبنى إلا على جذور عميقة في التقاليد الشعبية.
تحليل الشخصيات الأسطورية في ضوء البعد النفسي–الاجتماعي
• الموت (سا): ليس مجرد نهاية بيولوجية، بل قوة أنطولوجية تمثل حتمية الوجود، وهي "الأب الأول" الذي يفرض سلطته على البشر.
• القمر: شخصية مأساوية، يغوي بالخصب والحياة، ثم يتحول إلى رمز للخطيئة والعقاب، ليعكس تناقضات الرغبة الإنسانية بين الخلق والدمار.
• الحيوان المؤلَّه (الثعبان، العنكبوت): إسقاط لرغبات الإنسان الخفية، ومخاوفه من الشر، ومحاولاته لفهم النظام الأخلاقي عبر الطبيعة.
هذه الشخصيات، وإن بدت غرائبية، تحمل رموزاً نفسية واجتماعية تشبه ما نجده في الأساطير اليونانية أو النصوص الدينية الكبرى.
خاتمة
الأساطير الأفريقية ليست مجرد تراث قصصي، بل هي وعي فلسفي جماعي يعبّر عن وحدة الإنسان مع الكون، وعن محاولاته لفهم الموت والخطيئة والوجود. وهي في الوقت نفسه أدب شعري ينقل عبر الرواة والمنشدين، ثم يجد امتداده في الرواية الأفريقية الحديثة.
ومن هنا، فإن دراسة هذه الأساطير لا تكشف فقط عن رؤية الأفريقي للعالم، بل عن الإنسانية كلها، إذ تلتقي الرموز والأنماط في عمق النفس البشرية رغم اختلاف الألسن والثقافات.