انتظار ممل

انتظار ممل
ترى، كم مضى من الوقت وهي تنتظر؟ كانت جالسة، شاردة الفكر ، ساهمة النظرات ، زائغة البصر ، لا تشعر بمرور الدقائق، ولا تحس بثقل العالم من حولها. ساعة؟ ساعتان؟ ثلاث؟ لا… بل كأنه عقد من الزمن مرّ على مهل، يجرّ أذياله بصمت، وهي على مقعدها التقليدي حزينة ، ذاك المقعد الذي اعتاد جسدها أن يألفه بعد كل عناء يومي . استلقت قليلاً لتسترخي من تعب يومها المعتاد، ذلك اليوم الذي لا يختلف عن سابقيه، مليء بالمسؤوليات التي أَلِفتها حتى مع جسدها المنهك، المبتلى بأمراضٍ لم ترحم، لكنها لم تشكُ، بل أدّت واجباتها المنزلية كما تعوّدت، بدقّة الأم وعزيمة الأنثى الصلبة. مرت عقارب الساعة أمامها متثاقلة كأنها تجرّ خلفها العمر كله، وهي لا تزال تنتظر نتيجة التحاليل الطبية التي طلبها الطبيب. كانت تعلم أن الورقة القادمة قد تحمل القدر، فبين سطرٍ وسطر ربما كُتب ما يُبقيها أو يأخذها. لحظات يطغى فيها اليأس المقيت ، وأخرى يتسلل الأمل في خفاء، وبينهما ظل الخوف مقيمًا في قلبها، يهدهدها بهمسات لا تهدأ ، همسات كأنه يسخر منها . في انتظارها الصامت، تجولت بذاكرتها حول ذكرياتها ، كمن يفتش في أرشيف عمرٍ طويل، يعود أدراجه إلى بداياتٍ سحيقة. طفولتها... صورة رمادية باهتة، بلا ألوان، بلا ضحكات. فقدت أباها مبكرًا المحبوب ، وتركها الموت في حضن أمٍ مرهقة ، تقاتل في وجه الحياة وحدها. ومنذ سن السابعة، كانت هي " الأم الصغيرة " لإخوتها، تستقبلهم بعد المدرسة، تطبخ، تنظف، ترعى إخوانها و أخواتها الصغار، وتكبت الطفلة التي فيها > لم تحلم بعروسة، تعلب بها كبقية الأطفال في سنها، كانت فقط تنتظر انتهاء الدوام المدرسي لتعود إلى البيت، وتبدأ نوبتها الثانية. ثم جاءت مرحلة الصبا، فلم تكن أقل قسوة من الطفولة. كان المحيطون بها لا يعرفون الحنان، بل فقط التحذير، التخويف، والوصايا الثقيلة عن العالم الخارجي المملوء بوحوش آدمية لا يرحمون ، و ليس لديهم مشاعر . كأنها كانت تعيش في قفصٍ زجاجي، تُراقب الحياة دون أن تلامسها. حتى أبسط العلاقات الإنسانية كان يُمنع عنها باسم الحذر، والخوف، والمجتمع. وهكذا، عاشت حياتها في انتظار طويل. انتظار أن تكبر. انتظار أن تتخرّج. انتظار أن تعمل. أن تُحب. أن تُشفى. وفي تلك اللحظة، وهي وحدها، أدركت ما لم يخطر ببالها يومًا: أن الحياة كلها ليست إلا انتظارًا متصلاً، من المهد إلى اللحد. انتظارٌ لما لا يُعلم، لما قد يُفرح أو يُبكي، انتظارٌ لا يُمهل ولا يُفسّر. إنها مثل شجرةٍ تحلم بالربيع، بالاخضرار والثمر، لكنها تعلم أن الخريف قادم، لا محالة، تسقط فيه الأوراق ورقةً تلو الأخرى يوما بعد يوم ، سنة بعد سنة دهرا بأكمله . ثم يأتي الشتاء، حيث تُصاب الأرواح و الأجسام بالبرد، وتتجمد الأحلام في مقلتها . وهكذا، ها هي الآن… بين اليأس والرجاء، بين الخوف والاحتمال، ما زالت تنتظر تلك النتيجة، بورقة صغيرة تأخذها من الممرضة لتعرضها على الطبيب ، لكنها قد تغيّر كل شيء.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال