أطفال خارج إطار الزواج: ملائكة بلا نسب!
تتعدد المصطلحات التي يطلقها المجتمع على هؤلاء الأطفال الأبرياء: أولاد حرام، أولاد زنا، أبناء الفراش، لقطاء... وجميعها ألفاظ محمّلة بالدونية والإدانة، تُقذف بها كائنات لم تختر القدوم إلى هذا العالم، ولم يكن لها من الأمر شيء. تطلق هذه الأوصاف الجارحة على رُضّعٍ لم يرتكبوا أي ذنب، على أيدٍ صغيرة ناعمة، ووجوه طاهرة بريئة لا تزال تكتشف الحياة، فإذا بها تصطدم منذ لحظة الميلاد بجدرانٍ من الإقصاء والوصم والرفض.
إنهم "غير الشرعيين"، كما يحلو للبعض أن يصفهم حين يتحرّج من استخدام الكلمات الأقسى، وهم في حقيقة الأمر ضحايا مجتمعٍ لا يرحم، وشريعةٍ تُؤوّل أحيانًا على نحوٍ لا يُراعي العدالة الاجتماعية، وقانونٍ يتلكأ في منحهم حقوقًا كاملة غير منقوصة. يولد هؤلاء الأطفال في سياق علاقات خارج إطار الزواج الرسمي، فيجدون أنفسهم منذ الصرخة الأولى في عالمٍ يحاسبهم على ما لم يقترفوه، ويلقي بهم في مواجهة آباءٍ يتنكرون لهم، وأمهاتٍ يُحمّلن وحدهن وزر خطيئة مشتركة.
هذا الواقع المأساوي، بكل تعقيداته القانونية والاجتماعية والنفسية، كان محور النقاش في إحدى حلقات البرنامج الجريء "في فلك الممنوع" التي حملت عنوان: "أطفال خارج إطار الزواج.. ملائكة بلا نسب!". الحلقة قدّمتها الإعلامية ميسلون نصار، واستضافت فيها نخبة من الناشطين والحقوقيين المهتمين بهذا الملف الشائك، منهم: المحامية فاطمة الزهراء الإبراهيمي، والمحامية والحقوقية في "منظمة كفى" ليلى عواضة، ورئيسة "جمعية نور للمرأة والأسرة والطفل" دليلة حسين، والناشط الحقوقي ورئيس منظمة "تنويريون من بلاد الإسلام" محمد الشيخ ولد امخيطير.
ناقشت الحلقة قضية الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج من زوايا متعددة: القانونية، والاجتماعية، والحقوقية، والشرعية، مستعرضةً إشكالات نسبهم، ووضعهم القانوني، ومعاناتهم من التهميش منذ ولادتهم، لا لذنبٍ ارتكبوه، بل فقط لأنهم جاؤوا نتيجة علاقةٍ رفض المجتمع أن يعترف بها، فامتدت العقوبة إلى أجسادٍ غضّة وأرواحٍ لا تزال تتلمّس طريقها في الحياة.
وفي قلب النقاش، برزت إشكالية الهوية والحق في النسب، وهي من أكثر القضايا إيلامًا وتعقيدًا، حيث تحرم غالبية التشريعات العربية هؤلاء الأطفال من الاسم الكامل ومن الاعتراف القانوني بالأبوة، مما يعمّق من إحساسهم بالنبذ واللاانتماء. كما تتطرق الحلقة إلى معاناة الأمهات اللواتي يجدن أنفسهن ملاحقات اجتماعياً وقانونياً، ويتعرضن للوصم والإقصاء، في ظل غياب منظومة دعم فعالة تُعيد لهن كرامتهن وتضمن لهن دورًا إيجابيًا في تنشئة أبنائهن دون خوف أو خجل.
"ملائكة بلا نسب" ليست مجرد استعارة شاعرية، بل توصيف دقيق لحالة وجودية قاسية يمرّ بها هؤلاء الأطفال. هم ضحايا ثقافة تُكرّس العار، وتُغلّب العقاب على الرحمة، والنبذ على الاحتواء، في وقتٍ لا يحتاج فيه الطفل سوى إلى دفء الأمان، والاعتراف بوجوده، وإتاحة الفرصة له ليكون إنسانًا كامل الكرامة والحقوق.
لقد بات من الضروري أن تعيد المجتمعات العربية والإسلامية، مجتمعةً ومشرّعةً ومؤسسةً، النظر في مواقفها من هذه الفئة المهمّشة. ليس فقط من منظور حقوق الإنسان، بل من منطلق ديني وأخلاقي وإنساني، يكرّس مبدأ "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، ويؤسس لمنظومة قانونية عادلة لا تُعاقب الطفل بجريرة غيره.
إن قضية "أطفال خارج إطار الزواج" ليست شأنًا خاصًا، بل مرآة لدرجة نضج المجتمع وعدالته وتطوره. إنصافهم هو في جوهره إنصاف لإنسانيتنا المشتركة، واعتراف بأن الحق في الحياة الكريمة لا يُبنى على أوراق زواج، بل على ميثاق أوسع من ذلك: ميثاق الرحمة، والعدالة، والكرامة.