الطرفة: التناقض الجميل وسحر المفارقة

الطرفة: التناقض الجميل وسحر المفارقة
الطرفة، أو النكتة، ليست مجرد ومضة عابرة على شفاه العابرين، ولا هي فقط حيلة لانتزاع ضحكة من بين الشدقين. إنها فن معقد، يضرب بجذوره في أعماق النفس البشرية، ويتقاطع في بنيته مع العقل، والوجدان، والتمرد، و الصنعة معًا. إنها تعبير مباغت عن ذاتٍ تبحث عن معنى، وتختبئ في عباءة السخرية المرّة، بينما تبوح، بذكاء حاد، بصرخات خفية ضد التسلّط، والخيبة، والخذلان. فحين تقترب النكتة من الأفواه، تأخذ طابعًا استعراضيًا يغازل اللحظة، لكنها من جهة أخرى، تمثل منظومة فكرية متماسكة تستند إلى مفارقة صارخة أو تناقض مدروس، تولّد الضحك لا لفرط السذاجة، بل لفرط الوعي. ففي داخل كل نكتة – كما في كل لحظة ضحكٍ مفاجئ – رغبة نفسية في التنفيس، وحاجة اجتماعية إلى التماهي، وأحيانًا شرارة سياسية صغيرة تشعل فتيل الجرأة. لقد عرف التاريخ الطرفة سلاحًا خفيًا يُزلزل العروش، لا بالسيوف، بل بالكلمات. ففي بلاطات الملوك، وعلى منابر الخلفاء، كانت النكتة تتسلل خلسة، لتصيب كاريزما الطغاة في مقتل. قد لا تُحدث التغيير الجذري المنشود، لكنها تمهّد الأرض للثورة، وتزرع في الأرواح جرأة السخرية من الممنوع، فتبدأ رحلة الشعوب نحو كسر حاجز الخوف. الطرفة إذن ليست رفاهية تافهة، بل شكل من أشكال المقاومة، وتعبير صريح عن الذكاء الشعبي الجمعي. وهي، على نحو أعمق، مرآة تعكس نمط تفكير الشعوب، وتوضح مدى قدرتها على تحويل الضغوط إلى ضحكات، والهزيمة إلى تعبيرات حرة عن اللا أبالية أو حتى التحدي. إنها تنبئ عن صلابة الشخصية، أو خضوعها، وعن روح الجماعة حين تواجه العجز بالضحك، أو حين تعيد تركيب الواقع بما يتناسب مع حسّها الفطري بالعدل، والكرامة، والدهشة. وغالبًا ما تزدهر النكتة في المجتمعات المقهورة، لأنها توفر – ولو مؤقتًا – مساحة وهمية من الحرية. الحرية في القول، والتصوير، والتأويل. هنا تصبح النكتة عملية هروب مشروعة، بل نبيلة، من واقع ثقيل الوطأة، إلى فضاء من التعبير الشعبي الشفهي الذي يصطدم أحيانًا بالواقع الصلد، فيرتدّ رد فعل ساخرًا، هشًّا أو لاذعًا، حسب السياق. وقد تتوهج الطرفة في حضور الإعلام أو في ظل شخصية ذات جاذبية سردية، فتتحول إلى لحظة تاريخية، لا تقل أثرًا عن بيان سياسي أو خطاب جماهيري. ولنا في طرائف الإسكندر المقدوني، وسقراط، وملوك بني العباس، شواهد ناصعة على هذا الدور الطريف والخطير معًا. فحين يُضحك الحاكم، أو يُسخر منه، تتكسر بعض أوهام الهيبة، ويُعاد تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ويظن البعض أن النكتة تبتعد عن الدين، لجدّية الفضاء الديني أو لانشغاله بما هو أثقل وأعظم. غير أن الطرفة الدينية – وإن جاءت أقل صخبًا – لم تغب عن الساحة. إذ ظهرت في أشكالٍ رمزية، أهدأ وقعًا، وأعمق تلميحًا، تلامس الجدية ولا تغرق في الهزل. فهي لا تسعى إلى الضحك الهيستيري، بل إلى ابتسامة حكيمة، أقرب إلى التبصر منها إلى الترفيه. وإذا ولجنا إلى الأسس البلاغية والمنطقية التي تنبني عليها النكتة، وجدناها تشترك في أدواتها مع أرقى فنون اللغة. فهي تلاعب لفظي وصوري، قائم على المفاجأة، والمفارقة، والتوليف الذكي لأفكار متباعدة. حين نقول إن النكتة تنبني على التناقض، فنحن نقصد بذلك أنها تجمع بين طرفين يفترض أنهما لا يجتمعان منطقيًا. وهي بهذا تتحدى القواعد الكلاسيكية للمنطق، لتحقّق تأثيرًا نفسيًا ومعرفيًا من خلال كسر المألوف. كما تتكئ الطرفة أحيانًا على التضاد اللفظي، حين يقال الشيء وضده، وعلى التشبيه بأنواعه، وخاصة "التشبيه المقلوب السالب" – إن صحّ التعبير – حين يُقدَّم الضعيف بوصفه القوي، أو التافه بوصفه العميق، في مفارقة مقصودة تخلق مناخًا من الترقّب، ثم الضحك المتفجر. وهنا تحديدًا يكمن سر نجاح الطرفة: في قدرتها على خلق مساحة درامية، تفتح شهية المستمع على نتيجة لا يتوقعها، لكنها ما إن تأتي حتى تبدو منطقية في غير منطقها، واقعية في سورياليتها. وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن نختزل النكتة في ضحكة، بل هي مركب فني ونفسي وسياسي، يعكس قدرة العقل الجمعي على ابتكار سرديات صادمة، لا لتسلية الوقت، بل لإعادة ترتيب العالم ولو لحظة... على مقاس الضحك.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال