"جزاء الإيذاء.. دقّة بدقّة!"
في بلاد الهند، يروون حكاية طريفة ذات مغزى، بطلاها ابنُ آوى والجمل، وتدور حول مكرٍ يُقابل بالحيلة، وخديعةٍ تُردّ بمثلها، وحقٍ يُستعاد، ولكن بطريقة لا تخلو من سخرية مُرّة وعدالة شعرية صارمة.
في أحد الأيام، اقترب ابن آوى من الجمل وأخبره في نبرةٍ من يَعرف ما يشتهي الجائعون، عن وجود مزرعة عامرةٍ بقصب السكر على الضفة الأخرى من النهر. وسرعان ما تهللت ملامح الجمل طربًا لهذا النبأ، إذ كان جائعًا شغوفًا بهذا النبات الحلو الطيب، الذي لا عجب في حبّه؛ فقد بلغت حلاوته حدًا جعله أصلًا لصناعة السكر ذاته، وهو غذاء يجمع بين اللذة والفائدة، يمنح الجسد دفقة من الحيوية والانتعاش.
لكن، ما من طيّبٍ إلا وتُدسّ فيه نية خبيثة، وما كان ابن آوى هذا ليهتم بجوع الجمل أو فرحته، إذ كان كل ما في الأمر أنه أراد الوصول إلى الصخرة الكبيرة المغمورة عند الضفة الأخرى، حيث يعرف أنها عامرة بالسرطانات والحيوانات المائية التي يعشق أكلها. ولكن النهر كان عميقًا، وهو لا يحسن السباحة، بينما الجمل الطويل القامة يستطيع قطعه بسهولة.
وهكذا، ما هي إلا لحظات حتى كان الجمل يشق عباب النهر، وابن آوى مستلقٍ على ظهره في أمانٍ لا يستحقه، حتى وصلا إلى الضفة الأخرى، وهناك افترق الرفيقان؛ الجمل اتجه إلى قصب السكر، وابن آوى إلى صخرته التي تفيض بخيرات الماء.
وأكل ابن آوى حتى امتلأت معدته الصغيرة، وسبق الجمل إلى الشبع بطبيعة الحال، فالجمل لا يكتفي بالشبع فقط، بل يخزن الطعام في جوفه الكبير لاستخدامه في وقت الحاجة، كما تفعل الحيوانات المجترة. طال مكوث الجمل في المزرعة، وطال معه انتظار ابن آوى الذي لم يعرف طعم الصبر، فراح يجول في المكان بحثًا عن رفيقه، ولمّا أعياه البحث، وقف يعوي بأعلى صوته لعل الجمل يسمعه.
لكن لم يسمع العواءَ الجمل، بل التقطه أهل القرية الذين يعرفون جيدًا أن العواء لا يأتي إلا من مصيبة أو نذير شر، فهبوا يحملون عصيّهم، وسرعان ما اتجهوا نحو مصدر الصوت. وكان أول ما رأوه هو الجمل الضخم، فانقضوا عليه بالضرب والسباب، رغم أنه لم يكن مصدر الإزعاج. صبر الجمل قليلًا، ثم لما أوجعه الضرب، هاج وماج، وشق طريقه بين الناس كالسهم، وفرّ عائدًا إلى النهر، حيث كان ابن آوى في انتظاره، بريئ الملامح، كأن شيئًا لم يكن.
تقدم الجمل منه وهو يئن من الألم، وقال محتجًا:
— "قل لي بربّك، لماذا عويت؟ لقد سببت لي أوجاعًا لن تُمحى من جسدي ولا ذاكرتي!"
لكن ابن آوى لم يعتذر، بل قهقه وضحك كأنّ الأمر لا يعنيه، وقال ساخرًا:
— "آه يا صاح، لقد أكلت حتى شبعت، فعشيت! وهذا العواء الذي سمعته ما هو إلا غناء يفيض به قلبي حين تمتلئ معدتي!"
ذهل الجمل من وقاحة الرد، وامتعض في صمت، وأشار إلى ابن آوى أن يركب على ظهره من جديد، ليعود به إلى الضفة الأخرى. صمت الجمل لا يعني نسيانًا، بل تفكيرًا عميقًا في ردّ الصاع صاعين.
وفي وسط النهر، حيث لا منقذ ولا مستغيث، بدأ الجمل يهزّ جسمه هزًا عنيفًا، ويتمايل يمنةً ويسرةً، حتى ارتجف ابن آوى وصرخ مستغيثًا:
— "بالله عليك، كُفّ عن هذا! سأغرق، سأموت!"
لكن الجمل لم يتوقف، بل ردّ عليه ببرود مُتقن:
— "آه يا صاح، لقد أكلت حتى شبعت، وها أنا أرقص! وهذه الهزّات ما هي إلا رقصة الفرح التي تجود بها نفسي متى امتلأت معدتي!"
وقالها وهو يهز جسده أكثر فأكثر، حتى انقلب ابن آوى من فوق ظهره، وسقط في النهر، وغرق ومات.
وهكذا كانت "دقّة بدقّة"، والبادئ أظلم.