"حبابة ويزيد: حين عزف العود على وتر القلب"

"حبابة ويزيد: حين عزف العود على وتر القلب"
الحب لا يعرف سلطانًا ولا عبدا... لا فرق فيه بين خليفة وأَمة، ولا بين قصر وموطئ قدم. هكذا بدأت قصة الحب التي نسجت خيوطها في ظلال الخلافة الأموية، بين يزيد بن عبد الملك، سليل العرش، وجاريته المغنية حبابة. كانت حبابة، أو "العالية" كما عُرفت في أول أمرها، فتاة من مولدات المدينة، فاتنة الجمال، ناعمة الصوت، حاذقة في الغناء والعزف على العود. حين التقاها يزيد، قبل أن يجلس على كرسي الخلافة، دفع فيها ألف دينار، مفتونًا بحُسنها، حتى أثار بذلك سخرية الخليفة سليمان، وكاد أن يحجر عليه لسفهه في الإنفاق، فردها يزيد إلى مولاها. لكن الأقدار كانت تدخر لهما فصلاً آخر من الحكاية. مات سليمان، وارتقى يزيد سدة الحكم. وكانت زوجته "سعدة" تعرف وقع حبابة في قلبه، فأحضرتها له وقالت: "هل بقي عليك من الدنيا شيء لم تنله؟" فأجابها: "نعم، العالية." فقالت: "هذه هي، وهي لك." فسماها "حبابة"، ومنح سعدة قدرًا عظيمًا في نفسه. منذ تلك اللحظة، أصبح يزيد أسيرًا لهواها. لم يكن يُفارقها، يأكل معها، يشرب معها، ويسهر على أنغام غنائها. ورغم كثرة لائمين من بني أمية، لم يكن يُصغي لأحد. أما حبابة، فلم تكن تدرك شأن الدولة ولا همّ الأمة، فقد كانت غارقة في نعيم السلطان، تستخدم ما استطاعت من فتنة النساء كي تضمن مكانتها في قلب الخليفة. وحين جاءه أخوه مسلمة يعاتبه: "يا أمير المؤمنين، خلفت عمر بن عبد العزيز وعدله، وها أنت غافل عن الناس والوفود تصيح ببابك"، همّ يزيد أن يقلع عن الشراب والغناء، وابتعد عن حبابة أيامًا. فأرسلت حبابة إلى الشاعر الأحوص، ووعدته بألف دينار إن هو رده إليها. فأنشده هذه الأبيات: ألا لا تلمه اليوم أن يتلبدا فقد غلب المحزون أن يتجلدا ... فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فتردد يزيد، لكنه لم يعد. حتى جاءت لحظة ذكية من حبابة؛ وقفت له على الباب، والعود بيدها، وأنشدت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي فاستسلم وقال: "صدقْتِ والله... فقُبّح الله من لامني فيك." عادت الليالي الطوال، يرقص فيها يزيد طربًا ويغني، حتى قيل إنه فضّلها على جارية أخرى كانت أعذب صوتًا، اسمها سلامة. وحين اختلفت الجاريتان في غناء بيتٍ من أشعار معبد، كتب يزيد إلى والي المدينة ليُحضر المغني بنفسه! وما إن جاء معبد وغنّى حتى نسِي الخليفة أصل الخلاف، واندمج في الطرب، وظل يدور في القصر يرقص كطفل، وهو يهتف: "السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان!". وما لبث أن أُصيب الحبُّ بلعنته الأبدية: الفقد. نزل يزيد ببيت رأس في الشام مع حبابة. وأراد أن يعيش يومًا خاليًا من الكدر، فأوصى: "لا تجلبوا إليَّ كتابًا، ولا تُبلغوني خبرًا". لكن القدر سبقه إلى النغمة الأخيرة. أكلت حبابة حبّة رمان، فشرقت بها وماتت. جلس يزيد ثلاثة أيام لا يدفنها. كانت تفوح وتتعفّن، وهو يشمّها ويقبلها، كأن الحياة توقفت عند تلك الرمانة الملعونة. ولما لم يعد في الصبر طاقة، دفنوها، فجلس على قبرها هامسًا ببيتٍ من شعر كثير: فإن يسلُ عنك القلب أو يدع الصبا فباليأس يسلو عنك لا بالتجلد ولم تمضِ خمسة عشر يومًا حتى لحق بها، ودفن إلى جانبها، كأن قبرها كان بوابة عبوره إلى ما بعد الوجد. وقيل إنه نبش قبرها بعد أيام، وقال: "ما رأيتها قط أحسن منها اليوم!" حتى نُزع عنها بالقوة، ثم كمد كمدًا شديدًا، ومات. أما حبابة، فلا يُعلم أكانت تحب حقًا؟ أم أنها، كما كانت كثيرات من القيان، أتقنت دورها جيدًا دون أن تعيشه. وحده يزيد أحب حتى ذاب، ورقص حتى انهار، ومات وهو يشدو: ما للفؤاد سوى ذكراكمو وطر إن سار صحبي لم أملك تذكركم... قصةٌ، إن لم تُخلّد في قصور الأمويين، فقد بُعثت حية بين سطور العشاق الذين يعرفون أن الحبّ، أحيانًا، يُصبح لعنة لا فكاك منها.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال