"باريس وهيلين:
بين فتنة الجمال وقدر الحرب"
هل كان حبًّا حقيقيًّا بين شخصين من لحم ودم عاشا في زمن غابر؟ أم هي مجرد أسطورة نسجها الخيال الإغريقي ليروي بها ملحمةً عن الشغف، والاختيار، والانهيار؟
لقد عبرت قصة باريس وهيلين قرون الأسطورة والتاريخ، لتقف على تخوم المأساة الكبرى التي أنهت حضارة طروادة وأشعلت نار حرب امتدت لعشر سنين، تجاذبت فيها الأهواء البشرية بأهواء الآلهة، وكأن العالم بأسره صار رقعة شطرنج تحركها الرغبة والغواية.
في البدء، لم يكن باريس سوى راعٍ بسيط في سفوح جبل إيدا، لا يدري أنه يحمل في قلبه بذرة حرب كبرى. شاءت الأقدار - أو مزاج الآلهة - أن يُستدعى ليكون الحكم في نزاع جمالي أزلي بين ثلاث من أعظم الآلهة: هيرا، رمز السلطة والعرش، وأثينا، إلهة الحكمة والحرب، وأفروديت، سيدة الجمال والحب. كل واحدة منهن أغرته بما تملك: هيرا بالسلطة والملك، أثينا بالحكمة والنصر، وأفروديت بكنز لا يُقارن – أجمل نساء الأرض.
وكان الاختيار... وكان المصير.
اختار باريس أفروديت، لا لشيء إلا لأنها وعدته بهيلين، تلك التي كان جمالها يُقارن بشروق الفجر، وكانت في ذات الوقت زوجة لملك سبارتا مينيلوس. وعدته أفروديت، ووفت. وسافر باريس إلى سبارتا، وهناك لم يخرج إلا ومعه هيلين، كأنها جائزة مسروقة، أو قَدرٌ يسير على قدمين.
وبهذا الفعل البسيط ظاهريًا، اشتعلت النار تحت الرماد. ولم تكن تلك نار الغيرة ولا نار الكرامة فقط، بل كانت نار حضارات تتصارع، ونبوءات تتحقق، وآلهة تتنازع في السماء كما يتنازع البشر في الأرض.
الآلهة انقسمت كما ينقسم البشر أمام الحب والعدالة والانتقام: هيرا وأثينا، الغاضبتان من قرار باريس، وقفتا إلى جانب اليونانيين، أما أفروديت، التي وعدت وأغرت، فظلت إلى جانبه حتى النهاية. وكأن الحرب لم تكن فقط حرب طروادة، بل كانت أيضًا حربًا بين تصورات عن الجمال، وعن الحق، وعن القوة.
وفي قلب كل هذا، كانت هيلين.
هل كانت عاشقة؟ أم مسلوبة الإرادة؟ هل تبعت باريس حبًّا أم قهرًا؟ تلك أسئلة تُركت لتتناسل في ضمير الشعراء والفلاسفة منذ آلاف السنين.
أما النهاية، فقد أتت كما تنتهي معظم المآسي الكبرى: سقطت طروادة، وأصيب باريس بجراح قاتلة، وعادت هيلين إلى زوجها كما تعود الذكرى إلى ماضيها، لكن بعد أن كانت سببًا في دمارٍ لا يُنسى.
لقد خلد هوميروس هذه القصة في ملحمته "الإلياذة"، لا ليؤرخ لحرب، بل ليؤرخ للغواية، وللخيانة، وللرغبة التي تقود العالم نحو الهاوية. ومنذ ذلك الحين، ظلت قصة باريس وهيلين تلهم الأدباء والفنانين وصناع السينما، لأنها ببساطة لا تروي قصة حب... بل تروي مأساة البشرية في وجه الجمال حين يقترن بالأنانية، وفي وجه القدر حين يُكتَب بالتفاحة الذهبية.