الحب الخالد

الحب الخالد
قالت له في ذلك المساء : إنني بدأت أكره نجاحك و أحقد عليك ، فإن شعوري يتزايد بأنه ينتزعك مني فضحك ضحكة خافته و عيناه تسبحان في الفضاء كالحالم ، و قال لها بصوت تائه النبرات : إن أمامي عملية صغيرة ، سأفرع منها في وقت قليل ، ثم أعود لأصطحبك للسينما ، و سنمضي الليلة معا . و اختطف حقيبته وهو يهرع إلى الخارج ، ووضع على خدها وهو في طريقه إلى الباب قبلة ، أحست أنها قبلة حزينة فاترة .. و بدأت تتزين و تتعطر ، فكم تحب أن ترافقه ، و كم يشوقها أن تبدو جميلة فاتنة في نظره، و أن ترى نظرات الاعجاب في العيون حين تزهر إلى جواره ، و إن فلبها ليطرب كلما اطرى جمالها يطرب بقوة ، فقد كان يثوي فيه سر صغير ساحر ، انها تحبه حبا منعها الخجل دائما ان تصارحه كم هو عنيف و صارخ و جائر ، فإنها كانت ما تزال عروسا ، و الشهور القليلة التي مضت على الزواج لم تباعد بينها و بين حياة العذراء ، و لأنه لأمر نادر أن تظل الزوجة عاشقة ، و لا يتطرق الفتور إلى قلبها . و مضى الوقت ، و لم يعد ، و بدأت تعض أناملها من الغيظ ، إنه دائما يعد و يؤكد و يتعذر ، لا شك أنه تعمد الإهمال ، أ ليس واثقا من قدرته على الاعتذار ، و من إن قبلة ناعمة مفعمة رقة ، فوق شفتيها تمحو غضبها . و بدأت تخلق ثيابها و الدموع حائرة في عينيها ، و إذا جرس التليفون ـ يدعوها إلى المستشفى ، لأن زوجها ليس بخير ، جرح من المشرط الملوث أثناء اجراء العملية . إن ذلك يتكرر كثيرا في غرف العمليات ، و الأطباء في مثل تلك الظروف أكثر الناس ترديدا للحكمة القائلة : " إن الحذر لا يغني " و مع ذلك فقد همس أحد الأطباء في أذني أنه يعتبر الحادث مشوبا بالغموض . و دعنا الآن من ذلك ، الذي حدث أنه مات بين ذراعيها في ذات ليلة ، مات على أحد أسرة مستشفاه ، أ كانت تلك الميتة تخطر بباله ؟ إنه سيأخذ مكان أحد مرضاه ، و أنه سيثبت في وجود الذين ينحنون على فراشه عينا بيضاء لا تبصر ، كم يدري ، إن لدي من الأسباب ما يلقي في وهمي احيانا ، أن تلك الميتة قد خطرت بباله . و هكذا لطمت الحزان القلب الذي لم تكد تلمسه الأفراح . وواصلت حبها بين القبور ا كان لها ما تفر فيه غير ذكريات قبره كانت تبكر كل صباح إلى بائع الزهور فتختار اجمل طاقاته ، ثم تقصد إلى مرقد الراحل لتنثر الدمع و الزهور . و كنت أراها أحيانا فأخال أن حبها قد عنف ، و تصاعد أكثر من ذي قبل . و كنت أحاول أن أخفف من حزنها ولوعتها ، فكانت تقاطعني بشفتين مختلقتين :لا تتعب نفسك .. إنني كلما أبحث في أعماقي ازددت يقينا إنني امرأة خسرت قلبها، و اضاعته إلى الأبد ، و لقد اكتشفت بعد موته إنني قصرت في حبه ، و أنه كان يجب أن أحبه أضعاف ما أحببته ؟ و لم تكف أبدا على التردد على قبره .. و في احدى زيارتها قالت لي : يالك من صديق ، كلا أذهب في الصباح و أرى تلك الطاقة من الزهر التي تضعها على قبره في المساء أعرف إنك لم تنسه ، و كما يعزيني ذلك ، إن الوفاء لم ينقرض من الأرض واجبتها بلا وعي :: ولكن لست صاحب تلك الأزهار . و قد كانت سقطة لسان ، فقد أدركت ، في الحال ، إنني بذلك التصريح قد غلطت غلطة كبيرة ، ربما تكون وخيما العواقب ، و حقق مخاوفي أن منى بدت على التو شديدة الاهتمام بأن تعرف ذلك الذي يتردد على قبر زوجها . و جاءتني بعد أيام مكفهرة لتقول لي بصوت مضطرب : لقد عرفت من يضع الأزهار على قبر زوجي ، إنها امرأة صغيرة السن ، جميلة ، رأيتها بعيني و هي تبكي بحرقة ، و مرت بي دون أن تعرفني ، و إني أتطلع أنها ليست من الأسرة ، أ ليس قريبي ، هل أجهل أهلي ، و لو كانت منا لفطنت إني زوجته ، ، فماذا تكون إلا صاحبته ، و قد كان يخونني إذن . فقلت لها مستنكرا : أ أنت التي أحببته كل هذا الحب تشكين فيه كل هذا الشك ؟ لأنك رأيت امرأة تبكي عل قبره ؟ فانهارت على الأريكة تنشج و تنتحب و تشبثت به متوسلة : إنني وبخت نفسي كما تصنع معي الآن ، لكن وساوسي لم تبارحني ، و ظلت تلح علي ، فجئت إليك مستنجدة ، لتنقذني من هول الشك ، لابد أنك كنت تعرفها ، فإنك كنت صديقه الأوحد ، فقل لي ماذا كان بينهما ، هي أملك أن اغاضبه الان ، إن كل ما أريده هو أن أعرف . لقد وقع ما كنت إذن ما كنت أخشاه هل استنتجت منى شيئا من صمتي و ارتباكي ، ، لقد كانت تريد أن تصل إلى الحقيقة ، و مع ذلك فقد خيل إلي أن عينيها تطلبان أن ألزم الصمت ،ولا أتكلم و الموت ذكرى الرجل الذي احبته أكثر من كل شيء في الحياة ، و مسكينة المرأة عند ما تتمزق بين الرغبة في المعرفة ، و بين الرهبة من الحقيقة . و مرت في خاطري مرورا خاطفا قصة الصغيرة الحزينة ذات شتاء ، ذهب في رحلة قصيرة ليروح عن النفس في الأقصر ، و هناك في الفندق ، عرف فتاة جاءت من القاهرة مع أمها العجوز لمشاهدة الاثار . و كانت له مع صديقة الصدفة رقصات هانئة في بهو الفندق ، و نزهات حالمة في القارب الصغير في النيل في ضوء القمر ، وجولات عذبة بين هياكل طيبة ووادي الملوك . و التصق قلبه بقلبها التصاقا شديدا ، و بينما هو في قمة سعادته ، فقد كل شيء فجأة ، باحت له ، ذات ليلة و هى تسأله .. الوداع ، إنها كانت تختلس السعادة اخلاسا ، فإنها مخطوبة لرجل لا تحبه ، و عندما رأته ، و سقط قلبها في شباك هواه ، خبأت خاتم الزواج لكي لا يلمحه فيتجنبها ، ، أحبت أن تمد له حبل الأمل ، ثم ختمت اعترافها بكلمات باكية ، و أناملها المضطربة تعبث بالخاتم الذي أعادته إلى أصابعها : في سبيل أن أحصل على حلم بالهناء كذبت عليك ، فسامحني ، فأنني شقية ، ولو لم نكن هناك ظروف لا تقاوم على هذا الزواج لرفضته و عصيت أهلي ، و قنعت بمكان صغير عند قدمياك . و فرت إلى غرفتها ، وتركنه ذاهلا ، فانصرف إلى مخدعه منزعجا ، وهو يقدر أنه سيلقاها في الصباح كالعادة، و يراجعها في أمر تلك الظروف التي لا تقاوم ، و التي تحول بينهما . لكنها كانت قد رسمت خطتها ، لم يجدها في الفندق لقد غادرت القصر مع أمها بقطار الفجر . و عاد إلى القاهرة حزينا ، و بحث عنها بحثا يائسا ، فإنها كانت حذرة ، ولم تكشف له عن شخصيتها . و بعد شهر ودع الأمل عندنا رأى صورتها في ثياب العرس على جوار زوجها في معرض مصور مشهور . و دع الأمل و لكنه لم يودع الآسي ، لقد باغته الحب و برح به ، و كان يحز في نفسه أنه فقدها بتلك السرعة الموجعة في الوقت الذي وعد فيه نفسه بهناء لا يحد . و مع ذلك قله كان يريد أن ينجو بحياته من ذلك العذاب الحاسر العقيم ـ و رأي رأيا أقررته عليه ، أن يتزوج تلك الفتاة الحسناء التي كان يفكر فيها ، و يميل إليها ميلا هادئا ثابتا و في هذه الظروف تزوج منى و باح لي بعد الزواج أنه قانع راض عن الحياة ، مغتبطا بولع امراته به ، و أن قلبه بدأ يهدأ . لكنه من تلك القلب القابلة للالتهاب التي لا تكاد تلمسها شررة العاطفة حتى يشب فيها حريق مدمر لا يبقى على شيء . بينما كان التعس يظن أنه عقد الهدنة مع القدر ، كان القدر يمكر ، و يدخر له عذابا أشد ، أ لم يكن القدر هو الذي جمعه بالصاحبة القديمة بعد زواجه بشهر واحد ، في تلك الحفلة التنكرية الساهرة . لقد طلبت منه تلك المجهولة أن يراقصها ، و صمتت أول الأمر وهما يرقصان ، و خيل إليه أن رئتيه استروحتا من قبل ذلك العطر ، و أن روحه سكرت من شذى تلك الأنفاس ، ثم همست في أذنه الهمسات التي لا تنسى ، كشفت النقاب عن عينيها اللتين عبدهما ، و عن ثغرها . و عندما آلفت نظرته الظامئة بعينيها و بثغرها ، أيقبن أن القدر قد ساقه إلى هلاكه . وباحت له أنها شقية ، و إنها ندمت على فرارها الأحمق منه ، وغسلت ندمها بدموعها الغامرة . و باسم شقائها طالبته أن يتردد عليها ، و كان يوشك أن يلتمس منها ذلك . و خاض ضميره معركة خاسرة ، و سقط في أسر ذلك الهوى الحار المنكود . و منذ أذل ضميره ، تصاعد عذابه و كم كان مرا على نفسه أن يخدع زوجه الأمينة ، و كان يقول لي دائما ، : ترى أي عذاب استحق على فدري بثقتها ، إن الموت لي هو الراحة الكبرى ، و كنا أنكر فيه يشتد اقتناعي أنه المهرب الوحيد . و لذلك فقد جثم على ذهني خاطر مظلم ، عند ما حدثني الطبيب زميله بينما كان هو يموت بين ذراعي زوجته : " ‘أنه تسمم غامض " سألت نفسي : أ يكون قد .. فعلها ؟ و ها هي منى الأرمل الوالهة تأتي لتسألني : " ماذا تكون تلك المرأة الصغيرة التي تتردد على قبره إلا صاحبة ، و قد كان يخونني إذن . وقد أكدت لها أنها واهمة ، انصرفت حزينة حائرة . يا رباه ، لم أشفقت أن تتقابلا ، و تباغضا أمام ذلك الجدث الذي يضم العظام الرميم ، وخلت أن التراب الذي تحلل فيه قلبه المندثر البائد ، سيململ و يخجل . و قد عادت إلي منى بعد أيام أشد امتفاعا اتقول لي : لقد فاجأتها عند الضريح ، و سألتها من تكون فاضطربت و لم تحر جوابا ، و قد طردتها ، لماذا تبكين على فبره . ثم انخرطت في البكاء ، عجبا ، إنها تريد أن تحتكر الحزن عليه ، و تحسب أنه من حقها وحدها . و حتمت بكاءها قائلة : : حسنا إنك لا تريد ان تتكلم ، إن ذلك لن يجدي ، فقد حصلت على مفاتيح مكتبه في العيادة ، و المستشفى ، و إني ذاهبة الآن لأبحث في أوراقها . و كم ازعجني ذلك فقد كان نذيرا بهبوب العاصفة ، و نشوب الخصام بين المحبة الولهة و صاحبها الميت . و في المساء حملت إلي أسلاك التليفون صوتها الشاب ، خيل إلي أنه صوت رهيب أبيض مصاب بالبرص : أ لم أقل لك ، لقد رأيت رسائلها ، و أن الشقي كان يخونني خيانة متقنة ، و الآت لا تحرمني من الانتقام ، أريد أن أحمل هذه الرسائل إلى زوجها ، ينقصني عنوانها فهلا بحت لي به ، ووفرت على عناء البحث ، أتصر على التجاهل ، حسنا ، سأواصل بحثي بين اوراقه ، و سأظفر بها في النهاية ، مهما طال الوقت و أقفلت السكة في وجهي . و لكنها خاطبتني في اليوم التالي ، بصوت خلا من النقمة : أسمع أنه قبل أن يموت بدأ خطابا كتب منه ثلاثة سطور يسألها فيها الوداع ، لأنه لم يعد يطيق أن يسترسل في خيانتي ، و لست أشك عن كان سيتم رسالته لو أن المنية لم تعترضه ، لقد عثرت عليها تحت النشافة الكبيرة الموضوعة فوق درج مكتبه ، و قد ندم إذن على ما مضى ، و لو امتد به الأجل ن لولا الحادث المشئوم لطردها من حياته ، و قد سامحته ، ووجدت إنني لا استطيع أن أنفذ ما اعتزمته من انتقام ، فإنه بعد يحبني ، قد فض1لني عليها ، و كان يريد أن يقاطعها ، و قد رثيت لها ، إنك تعرف عنوانها ، فقل لها إنها تستطيع أن تأتي إلى القبر و تنثر عليه ما نشاء من الزهر . أندم حقا ، أم أنه عجز عن اتمام خطاب القطيعة ، و قام ليجري تلك العملية ، فمت في ذهنه مرور البرق فكرة الموت ، و اختلت اعصابه ، و طنه أن يحصل على الراحة من سن المشرط الملوث ، أم أن القدر هو لذي ترفق به ، و أعفاه من الصراع .. من يدري . إن ذلك كان منذ أعوام ، و كلما أذهب إلى قبره أردد في نفسي هذا السؤال ، و كأنني ألقيه عليه : إنني لا أرى زوجه الآن ، و لا أرى الأخرى ، و لكنني كثيرا ما عثرت فوق احجار ضريحه على بطافتين متعاصرتين من الزهر ، يبدو بجلاء أن كل الفارق بينهما في العمر بضع ساعات .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال