نحن والزمن
![]() |
نحن والزمن |
أليس من
البؤس أن يبحث الانسان عن طعامه بين القمائم و القاذورات .
في ركن من
أحد أركان أحد مقاهي القاهرة جلست وحيدا أتطلع إلى وجود المارة و الجالسين إذ
تبرمت بالحياة ، وعافت نفسي الحديث.
و جلس على
مقربة مني رجلان ، لعلهما كانا أشد اهتماما
بالحياة مني فراحا يقطعان الوقت في لعب
النرد في حمية وطلاقة ، كأنهما في رهان كبير
أو مباراة على لقب عزيز .
و إني لأرقب
أسارير وجهي اللاعبين و هي تنبسط عند " الدش " و تنفرج " للخانة
" ثم تنقبض عند " الضرب " وإذا بامرأة تلتحف ملاءة سوداء ، أو
كانت سوداء فعبث السنون بها ، فضربت إلى الخضرة الرمادية، و تفتحت في جنابتها
على ثوب خفف وجسد نحيل .
وقفت امرأة
أمام الرجلين في صمت ووجوم و كأنما أخذت بما رأته من حمية واهتمام ، وخشيت أن تقطع
حبل اللعب على صاحبيه ، فسكتت مشرئبة العنق عسى نظرة تفلت من أحدهما إليها فيرى
طابع السؤال المرتسم على الوجه الشاحب المحزون .
وصح وهم
المرأة ، و طار " الزهر " من يد
أحد اللاعبين فانحنت المرأة على
عجل تلتقطه و تعيده إلى الطاولة ، و هي تغتصب ابتسامة الشهيد الموثق على الصليب ، ابتسامة أحد الرجلين و نظرة ما تبغي من احسان و
صدقة وجود .
فلم يأبه أحدهما
لها ، وعاد اللعب أشد حمية من ذا قبل .
و كان ما
ليس منه بد ، مدت المرأة يدها تمس كتف أحد اللاعبين في رفق و ذل
و هنا شاء
نكد المرأة أن يقع الملموس جلادا .
و كأنما حزب
الأمرالرجل فالتفت إلى السائلة ، ليلقي عليها دشا قاسيا ، و راح ينهرها ، و يأخذها
بكلمات العنف من ذات اليسار ، و ذات
اليمين .
و خيل إلي أن
المرأة ودت لو انشقت الأرض لتنقذها من ذلك الموقف الأليم ، لكن الأرض أبت عليها أمنيتها ، فأنشقت أجفانها عن سيل من الدموع .
و لم أر بعد
هذا شيئا ، فلقد أنحبس الدمع في عيني و تردد بين أجفاني ، فحال بيني و بين بقية الموقف الأليم .
و اختفت
المرأة من أمامي في هذه اللحظة ، فقمت على عجل
أتفقدها حتى وجدتها ، قد استلقت
على الرصيف حيث أطلقت لدموعها العنان و
كان الحديث .
كان الزوج عالة
أقعده المرض و بقيت الزوجة الوفية تعينه على قوت الصغار ببيع أثاث البيت حتى لم يبق منه سوى الحصير .
و برح الداء
بالزوج ، و شد الجوع على بطون الصغار فراحوا يتلوون و يصرخون ، و خرجت الزوجة تبغي
فتات المحسنين ، فكانت ثمرة محاولتها الأولى ذلك الموقف العسير .. فوا رحمتاه على ألم
الصبور و الأب العليل و صغارهما البائسين .
و في هذه
القاهرة المرحة الصاخبة من أمثال هذه الصور البائسة الشيء الكثير ، صور يتجلى فيها
البؤس في أشد مظاهره ايلاما و تنطق بما تتلظى به النفس من وجيعة دون حاجة إلى
كلام أو تفصيل .
أذكر إنني كنت
أقوم ببحث عن شئون العاطلين في شتى أنحاء القاهرة
فجبت أماكن العمال ، و طفت بالمجامع التي يلتقي فيها العاطلون البائسون ، و
إني لجالس ذات يوم في احدى الحدائق العامة ، اتجاذب مع بعض العاطلين أطراف الحيث
، فرأيت أحد الرفاق ، و كان جالسا على طرف
مقعد الحديقة ؛ هذا الرفيق ، رأيته يمد
يده خلسة إلى جيبه ثم يخرجها قابضة على علبة سجائر استحال لونها كأنه استعار من وجه صاحبها الشعوب ، و فتح
الرجل العلبة في تحفظ شديد ، فانكشفت عن عقب صغير .
عقب لست
أدري كيف يستطيع المرء أن يشعله أو يضعه
بين شفتيه دون أن يعرض شفتيه للحريق . وما انتبهت إلى ذلك حتى وضعت يدي في جيبي و
أخرجت علبه سجائري – أنا لا أدخن إلا قليلا
- و لن أتجمل في أغلب الأحيان سجائر فاخرة لأن للسيجارة في قضاء الأعمال سحرا عجيبا.
موضوع قد يهمك : التدخين والأنوثة.
وخاب سحرها
في هذه المرة خيبة لا أنساها ما حييت ، نظر الرجل إلي بشدة ، و أدار وجه عني ، و
قام مسرعا .
العبرة
الفقراء
المساكين السائلين الاحسان يلقون معاملة سيئة من بعض الناس غليظي القلوب ، فمتى تعطف عليهم و لو بالكلمات.