القاتل المعترف
اسمه سعود . وجوه الناس في قريته كانت تحفظ له اسماً واحداً آخر: ابن الجنازة. جاء اسمه إلى قلبي كما يأتي طيفٌ على حافة نومٍ طويل. كنت ضابطاً في مركز إمبابة — القاتل المعترف
—، ومع اسم سعود بدأت ليلة لا تُنسى، ليلة احتضنها النهر ونسيها القمر.
كان الوقت يقارب الواحدة صباحاً عندما دق الباب الإلكتروني لقلب القسم: معاون المحطة يأتي بخبرٍ يسخر منه الصمت. «كمساري قطار المناشي قبض على راكب بلا تذكرة»، قال المُرسل، «وربطت ملابسه بالدماء، وهو في حالة اعتلال غريب». لم أكن أتصور أن تلكِ الجملة البسيطة ستفتتح أمامي مسرح حياةٍ كاملة.
دخل الرجل بقيدٍ على جسده، يعرج على أطراف أنفاسه كما لو أنه يحمل في صدره بقرة من الأسرار. امتدت يدي إليه لمسكه، ولم أجد في عينيه سوى صحراء تُحكي عن عاصفة طويلة. عندما سألتُه عن اسمه، رد بصوتٍ كالسكاكين: «سعود ». وبدأ السرد، كمن يفتح مذياعاً قديم الطراز، تصدر منه أصوات الماضي.
حكى لي بما بدا أنه تؤدة تراكمت سنواتها في قالب ليلةٍ واحدة. قال إن قريته في صعيدٍ بعيد، وأنه ابن فاطمة التي لم تُخلع سوادها منذ رحيلِ زوجٍ اختفى لم تَعُدْ تراه عين. «كان عمري خمس سنوات حين اختفى والدي»، قال سعود ، وصوتُه يتلوى كما يتلوى الحبل. «تعلمتُ من بكاء أمي أن الموت صار اسماً منتشرًا بين الشوارع، وأن قاتلاً ما يمشي حراً بين الناس».
تنامت كلمات الأم في رأسه حتى صارت شريعةً لا تُناقش: «ثأر لأبيك». ومن تلك الشريعة خرج الغريب: قرارٌ أن يطارد رجلاً في الإسكندرية فتح محلاً لبيع الفاكهة، رجلاً اسمه عوض —أو هكذا زعم سعود —. سافر هناك، وتسلّل كالظل إلى حكاية الرجل اليومية، عمل عنده، تعلم أن يمسك التفاح ويبتسم، ينتظر الوقت المناسب.
كان في قصة سعود طبقاتٌ من الانتظار والانتقام، لكنه أخفى فيها فراغاتٍ كفجوات ليلية. «لم ينتبه لي. لم يعرف أنني ابن مَن». يقول ذلك وكأنه يبحر في مرآةٍ تكاد تنكسر. أما الجزء الحاضر فكان أكثر وضوحاً: ليلةٌ في القناطر، لقاءٌ مع رجلٍ في الظلام طلب ثقاباً، واسم الرجل ــ بحسب ما وصفه سعود ــ كان اسمُ الوليمة التي أُغرقت بها حياتُه. «أخرجت المطواة»، قال، «وطعنته حتى سكت. ثم فصلت رأسه عن جسده». الكلمات كانت زجاجاً يتحطم على طاولةٍ باردة.
ثم أسرع نحو القطار، هارباً من ضوءٍ أصبح ضيقاً. انتهت قصته عند هذا الحد، لكنّي رأيت في عينيه راحةً مفروشة حين أطلق أنفاساً عميقةً، كأنما نزع جبلًا من صدره. ضحك ضحكةً خفيفةً تحوّلت إلى صفيرٍ قصير: «لقد انتقمت لأبي».
أخذتُ أفكر، أدوّن الرماد في كفي، وأسائل الحقيقة بعينٍ لا ترهبها الظلال. اصطحبناه إلى مكان الحادث، وبدأتُ أتقلب ما بين الحقيقة والخيال. فوجئنا بما ظهر: لا أثر لجثةٍ طافية، ولا شتاتٍ من دم، سوى أثر ذيلا لسلسلةٍ من الكدح. قال أهل القرية إن والد سعود حي يرزق، يحتسي الشاي على ضفة النيل بلا هم، وأن الرجل الذي ادّعى سعود أنه قتله لم يُعرف له وجودٌ في سجلِّ المدن. ما قاله الشهود كان بسيطاً، ومؤلمًا: «ما رآه ابننا إلا شاةً شاردةً عند القناطر»، هكذا قالت امرأةٌ بلسانٍ يفتش عن تعزية.
كان السرد يتهاوى كالمنزل الذي هزته ريح. سعود أصرّ؛ عَلَّمناه المنطق والورق، وواجهناه بحقائقٍ جليةٍ تكسر أي قناع. ومع ذلك، ظلَّ يركن إلى روايته الأولى، إلى مشهدٍ قلبه صنعه قبل أن يُدرك أنه يفتقد الحقائق. داهمني الفضول ففحصتُ قواه العقلية: سليمة. شيءٌ آخر كان يعمل تحت الجلد: حكايةٌ اختُلِقت لتصبح بلسمًا أو لعنة، لا أعلم.
الغريب أن ما كشفته الجيوب أظهر لعنةً أخرى. قبل أن نودعه إلى السجن احتياطًا، افتُش جيبه فوجدنا قطعة من الحشيش، تكفي لتقديمه بتهمةٍ أخفّ: حيازة مخدر. تحوّل القدر، إذًا، من قتلٍ متخيّلٍ إلى تهمةٍ حقيقيةٍ أخرى. أحكامٌ تُسدل ستارًا على صدامٍ بدا بين الحقيقة والخيال.
وقفتُ أمام سعود طويلاً، أراقب حركاته كما يراقب النجار قطعة الخشب قبل النحت. قال لي بصوتٍ لا يطلب الرحمة: «ربما لم أقتل رجلاً، لكنني قتلتُ شيئاً آخر». سألتهُ: «ماذا قَتَلت؟» فأجاب وهو يحدق في يدي: «قتلتُ خيبة قلبي، قَتَلتُ الفراغ الذي نشأ من صوت أمّي كل ليلة تقول إن الحق يجب أن يعود».
هنا، على رصيف الدليل، بدأتُ أفهم أن القتل عنده ليس بالضرورة موت جسد، بل موت فكرةٍ، موت انتظارٍ بائس، موت حلم استعادة كرامةٍ ضاعت. كان في روايته طقسٌ رمزيٌّ، وطقوس بعيدة عن القانون لكنها منسوجة من نفس حرير الألم.
في الصباح، بينما تغسل الشمس حواف المدينة، قادناه بسيارة الترحيل إلى حيث بقايا الحقيقة. أنذرتُ نفسي: لهذا الفتى قصته، ولا أحد يملك أن يختزلها في حكمٍ واحد. دخل السجن، لا لقتلٍ ثبت، بل لحيازة مخدر. كل شيء هناك يبدو بسيطًا، لكنه معقّد: القانون يتعامل بما هو مرئي، والروح تتعامل بما هو مُخادع.
وفي الليلة التالية، جلستُ قرب نافذة مكتبي، والنيل يهمس بألحانٍ قديمة. تذكرتُ وجه سعود ، وابتسامته القصيرة التي لم تلبث أن تكسرت. فكرتُ كيف أن البشر يصنعون نصوصهم حين يخونهم العالم. إنه لا يختلف كثيرًا عن أمٍ تُسدل سوادها، تنتظر رجلاً لم يعد أبدًا، ولا يعرف أحد إن كان حيًا أم ميتًا. كلنا نختلق قصصًا نعيشها، كي لا نغرق في ليلٍ لا نجوم فيه.
أغلقْتُ الملف وقد شعرت بأنني لم أُنهي روايةً بقدر ما وضعتُ علامةٍ سؤالٍ كبيرة. ما حقًّا الذي حمل هذا الشاب إلى روند الانتقام؟ هل كان فعلٌ حقيقي أم شعورٌ بالغَلَبةِ على النفس؟ وهل نعاقب الجسد على ما تفعله الروح من تقمصاتٍ واعترافات؟
تركتُ القسم، والنسمات الصباحية تخترق صدر المدينة. على رصيف المحطة، بدا القمر مثالياً في انعكاسه على النهر، وكأن الماء يخبئ بقايا كلماتٍ لم تُقل بعد. في جيوب الناس حكاياتٌ أكثر من نقودهم، وفي قلوبهم حبال مصنوعة من انتظار لا ينتهي.
وأخيرًا، حين مرّ طيف سعود في قلبي، تذكرتُ رأس نبتةٍ صغيرة تطفو على غصن شجرة مكسورة: قطعة من ورقٍ تتلوّن بخطٍ أحمر. ربما كانت قطعة لائحة قديمة، أو رقاقة دم على صفحةٍ منسية. أمسكتُ بها في مخيلتي فأضاءت: حسرة أمٍ، طفلٌ يختصر ثأره في طبقاتٍ من الخيال، ورمزٌ لامرأةٍ لم تُخلع سوادها. النهر بابتسامته الباردة أخذها بعيدًا، وحملت الموجة معها أسرارًا لا يجرؤ القانون على إحصائها.
وها أنا أكتب هذا السطر الأخير، وأترك النهاية كما تُحبّها الحياة: مفتوحة. ربما يظل سعود مجرمًا في عيون بعض القوانين، وربما يظل بريئًا في مرآة صرخة أمٍ. وما أعرفه يقينًا أن النيل، في ليله الطويل، سيحمل قصصنا كلها إلى مصبٍ واحد لا يعرف أسماء، حيث تتحول الذكريات إلى زبدٍ، وتطفو على سطح الحقيقة بقايا أملٍ لم يولد بعد.