الحياة بلا رتوش: على رصيف الطريق

الحياة بلا رتوش: على رصيف الطريق
هل تعرف أين تسكن الحياة؟ أهي في قصور الحالمين المترفين؟ أم في دروب المهمَّشين المعذبين ؟ إنها ليست هناك، ولا هنا فقط... الحياة، بكل ما تحمله من ضحكٍ وبكاء، من ضجيج وصمت، من هناء و شقاء ، تعيش حولنا لحظة بلحظة من لحظات الحياة ، بينما نمضي نبحث عنها في مكان آخر ، فلا نجد إلا سراب . نركض نحو السراب ركضا، ونهرب من وجه الحقيقة مغمضى الأعين ، والحقيقة تمشي إلى جوارنا، نسخر منا على وجوه الناس، في زحام الشوارع ، في عيون المارة التائة، في ضحكات العابرين الساخرة، وفي صمت المنكسرين الباحثين على أنفسهم . في كل وجه حكاية، وفي كل ملامح نداء خفيّ… وقد قررت مجلة كيف أن تغوص في بحر الوجوه، تبحث عن نبض الحياة الحقيقي، بعيدًا عن الرتوش ، التي نصنعها بأنفسنا . وجه أول: بائع الورد وفلسفة الرضا كان أول وجه اصطادته العدسة، وجه رجل تبدو على قسماته سكينة لا تُشترى بمال . وجهٌ راضٍ بقضاء الله و قدره ، يحمل ابتسامة تُشبه ارتياح مَن صالح الدنيا وسامحها. كان يرتدي جلبابًا بسيطًا أبيض اللون ، وفي يده باقة ورد بيضاء ، تهتز مع يده الأخرى التي تتحرك بحماسة كأنها تُترجم حديثًا صامتًا. اقتربت وسألته: ما سر هذا الرضا الواضح على وجهك؟ قال: "اسمي حسن مرسي، عمري 45 سنة، أعمل في محل ورد، ورزقي في اليوم 15 قرشًا، وأبيع من ناحيتي فأربح 30 قرشًا. عندي بيت يدخل عليّ 280 قرشًا في الشهر. أعيش مع زوجتي وأربعة أولاد وأمي... والحمد لله، عايشين مستورين". سألته: أأنت راضٍ حقًا؟ أجاب بابتسامة واثقة: "أنا سعيد... عارف ليه؟ لأن عندي سر بسيط جدًا في الحياة الزوجية: عمري ما خاصمت مراتي خصام طويل. لو زعلنا لأي سبب ، أروح الشغل عادي، وأبعت لها المصروف، وأنام يومين في المحل، ووقت ما أرجع، نكون احنا الاتنين هدينا... ولا كأن حاجة حصلت بيننا ". ما أعظم الفلسفات التي لا تُدرَّس في الكتب! الفلسفات التي توجد في وجوه البسطاء القانعين بما قسم الله لهم . وجه ثانٍ: المرأة التي فقدت الحنان ثم كان الوجه الثاني... وجه سيدة شابة ، تقف أمام محل ألعاب أطفال، تبحدّق في معروضاته ، كأنها تبحث عن طفولتها الضائعة. عينها مشوبة بشيء لا يُشترى: اللهفة، الارتباك، وربما الحنين. اقتربت منها بحذر ، وسألتها عن سر نظرتها الحزينة . تلعثمت، وكأنها تقاوم دمعة ثقيلة تريد أن تظهر . قالت بصوت مكسور: "أنا ما لم أعرف الحنان في أي وقت ... مات أبويا وأمي وأنا لسه رضيعة. جدتي ربتني، بس عمرها ما عوضتني حضن الأم أو كلمة من الأب. لما كبرت، اتجوزت وخلفت بنت، لكن جوزي طلقني بأمر من أبوه، علشان يجوزوه بنت عمه. اتجوزت تاني، لكن بنتي سببت مشاكل، فبعتها تعيش مع جدتي. كل ما أشوف لعبة أطفال، أتذكر بنتي اللي محرومة من حنان الأم و حنان الأب ، زي ما أنا اتحرمت طول حياتي . كانت تقعد تستنى أي راجل يدخل البيت، وتنادي: هل هذا بابا ؟' بنتي بتعيش نفس المأساة اللي عشتها، وأنا... قلبي يتكسر كل مرة ، كل وقت من انتظر لن يتحقق ". ثم أضافت وهي تحدّق في الألعاب: "الزواج في مصر شقاء، سواء بحب أو من غير حب. الحب والسعادة لا يسيران مع بعض مهما حاولنا. الرجالة شياطين جبارين ، والأهل أول من يهدّوا البيت على رأس من فيه . كل شيء في الحياة يكون جميل في عيوننا في العرض، لكنه يبهت لما نمتلكه. والحرمان... هو أقسى أشكال العذاب". وجه ثالث: روميو المتغطرس ابتلع الشارع المرأة المكسورة، ومضينا لنلتقط وجهًا آخر. أمام سينما "ريفولي"، وقف شاب في بدلة أنيقة بعض الشيء، يحمل حقيبة ثقيلة، وعلى وجهه خليطٌ من الخجل والثقة الزائدة قال إنه اسمه كمال سعد، سكرتير في وزارة التموين. وسألته عن سبب وقوفه أمام السينما و في يده هذه الشنطة: "كنت مستني بنت أحبها و تحبني، و لم تحضر... بس متفهمش إن ده فشل! بالعكس، أنا ناجح جدًا مع البنات، خصوصًا الأجنبيات ذوات القوام النحيف ، و الشعر الذهبي ، و الابتسامة الدائمة . المصريات؟ أقل وعي بقيمة الحياة ، وأكتر إزعاج بطلباتهم ، و الأجنبيات أرقى، وأكتر تفهمًا". وعن سر نجاحه في الحب، قال: "بسيط. أولًا: أسمع أكتر ما أتكلم ، فالصمت يجعلك تكتشف شخصية من أمامك ثانيًا: أكون لطيف دائما قدام الناس، لكن شديد وقت الخصوصية في معاملاتي . ثالثًا: أحب أكتر من واحدة في نفس الوقت ، لكي لا أبقى عبدا لأي واحدة ، تتحكم فيك و كأنك شيئا اشترته ". ثم ضحك كمن انتصر على كل نساء العالم، وهو يردد: "المرأة لو امتلكتك نبذتك ، بل و قللت احترامها لك ، ولو حست إن فيه غيرها في حياتك ، تبقى حنونة عطوفة لكي تفضل أنت معاها ، ". وجه رابع: "أنا بدوّر على شغل" وكان الختام مع وجه فتاة صغيرة، تتنقّل بين واجهات المحال دون اهتمام بالمعروضات ، و كا،ها تبحث عن لا شيء ، . عيناها لا تبحثان عن فستان انيق ترتديه ، بل عن مخرج من الضيق الذي يلازمها ، كظلها في حياتها البائسة . اقترت وسألتها: ما الذي يشغلك ، و أنت في عمر الزهور ؟ قالت بجملة كأنها طلقة مدفع : "أنا بدوّر على شغل". ثم أضافت بنبرة حزينة : "اسمي آمال محمد حسنين، عندي دبلوم تجارة من سنة 1953. أبويا مات، وعايشة مع أمي وثلاث إخوات أصغر مني مازلن يتعلمن . صرفنا كل مكافأته التي قررتها لنا الحكومة ، وأنا لازم أشتغل. كل يوم ، الجلوس في البيت يجيب خناق. و سألتني بتردد : أنت تعرف شركة بتدور على موظفة؟" قلت: أهذا هو أكبر همّك؟ قالت باختصار: "أيوه... في همّ أكبر من الجوع؟" قطرة في بحر وهكذا انتهت جولتي قطرة واحدة من محيط واسع، وجهًا من وجوه الحياة بلا مكياج. أربعة وجوه، أربعة مصائر، وأربعة أسئلة مؤجلة عن السعادة، الحنان، الحب، والخبز. الحياة ليست قصورًا نعيش فيها ، نحلم بها... بل وجوهًا نمرّ بها، وننسى أن ننظر إليها. رغم إننا ننظر .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال