الإمبراطورة التي أحبها الخديوي

الإمبراطورة التي أحبها الخديوي
في الخامس من مايو عام 1826، ولدت أوجيني دي مونيتو كوتسيه في غرناطة، حيث اختلط عبق الأندلس بصفاء الطفولة. انتقلت لتتلقى علومها في فرنسا، فغدت فتاة أوروبية الهوى، بارعة في الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، لا تُجارى في ذكائها ولا في فتنتها. كانت امرأة تأسر العيون بأناقتها، حتى قيل إنها لا ترتدي الحذاء الواحد أكثر من مرة مهما بلغ ثمنه، وكأنها تعيش في حضرة الدهشة والجمال الدائم. أُغرِم بها نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا، فاتخذها زوجة له في يناير 1853، وجعلها سيدة قصر التويلري. ولم تكن أوجيني مجرد إمبراطورة متوّجة، بل روحاً آسرة تجمع بين الرشاقة والهيبة، فحازت محبة الفرنسيين والعالم، واستخدمت جاذبيتها في تعزيز السياسة، حتى إنها قرّبت بين إنجلترا وفرنسا حين استقبلتها الملكة فيكتوريا بترحاب قلّ نظيره. لكن التاج لا يضيء بلا ظل. ففي إحدى ليالي يناير 1858، أُلقيت ثلاث قنابل على عربتها وهي في طريقها مع زوجها إلى دار الأوبرا. تناثرت الشظايا، وسقط من الحرس والحاشية من سقط، غير أن القدر نجّاها، فبقيت الإمبراطورة شامخة، يلفها وهج الحياة والموت معاً. ومع مرور الأعوام، ازدادت سطوة أوجيني حتى جاوز صيتها أوروبا كلها. وعندما افتُتحت قناة السويس في السادس عشر من نوفمبر عام 1869، دعاها الخديوي إسماعيل إلى مصر. استقبلها استقبال الملوك، بل استقبال العاشق الذي أضناه الحنين. حتى هي، وسط الأبهة والأنوار، اعترفت قائلة : : «لم أرَ في حياتي أجمل ولا أروع من هذا الحفل الشرقي العظيم" لم يكن ذلك الحفل وحده شاهداً على إعجابه الباهر بها؛ فقد أمر قبل ستة أعوام من زيارتها ببناء قصر في جزيرة الزمالك على طراز قصر الحمراء في غرناطة، كي لا تشعر بالغربة. هناك في سرايا الجزيرة، غُرست شجيرات الكرز تحت نافذتها، واستُحدث شارع الأهرام لتتمكن من رؤية الأهرامات كما تمنّت. بدا كل شيء في مصر يزهر على خطى خطواتها. وحين علم نابليون الثالث بالمبالغة في تكريمها، استشاط غضباً وأمرها بالعودة إلى فرنسا. فودّعها الخديوي بهدية وداع أسطورية: غرفة نوم من الذهب الخالص، وعلى ياقوتة حمراء نُقش بالفرنسية: « عيني على الأقل ستظل معجبة بكِ إلى الأبد». كانت تلك العبارة اعتراف حب مكتوم من حاكم إلى إمبراطورة، عشقٌ لم يجرؤ على البوح به إلا بالذهب والياقوت. لكن الأقدار لم تُمهلها. اندلعت الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا، وسقط نابليون في الهزائم، وصارت أوجيني كبش فداء للغضب الشعبي. نُهبت قصورها، وسُرقت جواهرها، واضطرت للهرب عبر باب خلفي كما تهرب البطلات المأساويات في الروايات. لجأت إلى إنجلترا مع زوجها وابنها الوحيد لويس، لكن الفقد لم يتوقف، إذ خُطف منها ابنها في ريعان شبابه، فذبل قلبها بالحزن. وفي شيخوختها، عادت إلى مصر متخفية. نزلت في فندق سافوي ببورسعيد عام 1905، وزارت القاهرة، متوشحة بالسواد، تطرق أبواب أرامل الخديوي إسماعيل، وكأنها تبحث في وجوههن عن ظل حب بعيد لم يكتمل. وفي صيف عام 1920، وقد بلغت الرابعة والتسعين، شدّت الرحال إلى مدريد، حيث ولدت يوماً. لكن الجسد الذي حمل هزائم الملوك وأحزان الأمهات لم يعد يحتمل، فأسلمت روحها في الحادي عشر من يوليو، مطوية على حكاية امرأة أحبها خديوٍي، وأسرت قلب إمبراطورية بأسرها.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال