مصر كمقاطعة رومانية: من استقلال البطالمة إلى الاضطهاد الروماني
بعد وفاة الإسكندر الأكبر، آل حكم مصر إلى خلفائه من البطالمة الذين أسسوا دولة قوية ومستقلة نسبيًا، تمتع فيها المصريون ببعض مظاهر الحكم الذاتي حتى عام 31 ق.م، حيث انتهى هذا الاستقلال بهزيمة كليوباترا السابعة ومارك أنطونيوس أمام أوكتافيوس (الإمبراطور أغسطس لاحقًا) في معركة أكتيوم البحرية. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت مصر ولاية رومانية بشكل رسمي، لتطوى بذلك صفحة دولة البطالمة.
استمر خضوع مصر للحكم الروماني منذ عام 31 ق.م وحتى 395 م، وقد اعتمدت روما على القوة العسكرية لترسيخ سلطانها على البلاد. فأنشأت ثكنات عسكرية في مواقع استراتيجية مثل شرق الإسكندرية، بابليون، أسوان وغيرها، لضبط الأمن وكبح أي حركة تمرد محتملة.
كان يحكم مصر والي يُعيَّن من قِبل الإمبراطور مباشرة، ويُقيم في الإسكندرية. وقد أُنيط به الإشراف على إدارة شؤون البلاد وماليتها، إلا أن مدة ولايته كانت قصيرة لتفادي استبداده أو ميله إلى الاستقلال، مما جعله يهمل الصالح العام ويكرّس جهوده لمصالحه الشخصية. أُقصي المصريون من المشاركة في إدارة بلادهم، كما مُنعوا من الالتحاق بالجيش، تفاديًا لاحتمال تنظيمهم وقيامهم بثورات ضد الحكم الروماني.
وبسبب هذه السياسة القمعية، اعتبر المصريون الرومان مغتصبين جدداً للحكم، لم يختلفوا عن البطالمة، بل زاد استبدادهم وظلمهم. ومثلما كانت مصر تشهد اضطرابات داخلية عند انتقال السلطة بين الأسر الفرعونية، فإنها لم تسلم كذلك من القلاقل تحت الحكم الروماني.
وإن خضع المصريون للحكم الجديد في بادئ الأمر، إلا أنهم ما لبثوا أن ثاروا في فترات متقطعة، وكانت الحاميات الرومانية تقمع هذه الانتفاضات بعنف بالغ. من أبرز هذه الثورات ما وقع في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس (161–180 م)، فيما عُرف بـ"حرب الزرع" أو "الثورة البكولية" نسبة إلى منطقة في شمال الدلتا. وقد تمكن المصريون خلالها من هزيمة القوات الرومانية، وكادت الإسكندرية أن تسقط في أيدي الثوار لولا وصول تعزيزات رومانية من سوريا قضت على التمرد.
تحولت مصر تحت الحكم الروماني إلى "البقرة الحلوب" للإمبراطورية؛ فالإدارة الرومانية استنزفت الثروات الطبيعية والبشرية للبلاد. فقد فُرضت ضرائب باهظة لا حصر لها، شملت الحيوان، والأراضي الزراعية، والحدائق، والتجارة، والصناعة، وحتى على الحمامات العامة والأسواق وأثاث المنازل. وكانت هناك ضريبة شهرية تُفرض على التجار، وضريبة تُجبى قبل خروج البضائع من المصانع، وأخرى تُعرف بضريبة "التاج"، يُجبر المصريون من خلالها على تقديم أموال لشراء تاج الإمبراطور أو بناء معابد وتماثيل له.
وكان من لا يستطيع دفع الضرائب يُجبر على أعمال السخرة، مثل حفر الترع وتطهيرها. كما أُلزم المصريون بتقديم القمح والشعير للجنود الرومان أثناء مرورهم بالقرى. هذه السياسات الضريبية الخانقة أدت إلى هروب الفلاحين من أراضيهم، وركود التجارة، وتدهور الزراعة، وانكماش الصناعة، ما أدى إلى انهيار اقتصادي شامل.
التحول الديني: من الوثنية إلى المسيحية
في البداية، ترك الرومان للمصريين حرية العقيدة، فظلوا يعتنقون الديانة الوثنية، الدين الرسمي للإمبراطورية. ومع منتصف القرن الأول الميلادي، بدأت المسيحية تتسرب إلى مصر قادمة من فلسطين على يد القديس مرقس، وانتشرت بداية في الإسكندرية والوجه البحري، ثم امتدت تدريجيًا إلى أنحاء البلاد خلال القرن الثاني الميلادي.
غير أن الرومان بدأوا ينظرون بقلق إلى هذا الانتشار، خصوصًا مع تمسك المسيحيين بعقيدتهم الجديدة ورفضهم تأليه الإمبراطور. فجاءت ردود الفعل قمعية، حيث تعرض المسيحيون في مصر لاضطهادات متزايدة، خاصة في عهد الإمبراطور سبتيموس سفيروس (193–211 م)، ثم بلغت ذروتها في عهد دقلديانوس (284–305 م)، الذي أراد أن يُؤله نفسه فرفضه المسيحيون، فشن حملة قمع دموية عُرفت بـ"عصر الشهداء"، وهو الاسم الذي أطلقته الكنيسة القبطية على تلك الحقبة.
ورغم الاضطهاد، صمد المصريون المسيحيون بقوة، وسرعان ما تحولت المسيحية إلى عقيدة وطنية جامعة. ولم تفلح حملات القمع في وقف انتشارها، بل استمر نموها حتى اعترف بها الإمبراطور قسطنطين الأول (306–337 م) في مرسوم ميلانو عام 313 م كدين مسموح به إلى جانب الأديان الأخرى، ثم أصبحت الدين الرسمي للدولة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول سنة 381 م.
غير أن هذا الاعتراف لم يوقف المعاناة الدينية، إذ نشب خلاف عقائدي عميق حول طبيعة السيد المسيح. فقد نادت كنيسة الإسكندرية بمبدأ "الطبيعة الواحدة"، في مقابل العقيدة الرومانية التي تبنت القول بالطبيعتين. أدى هذا الخلاف إلى مزيد من الاضطهادات ضد المصريين الذين تمسكوا بمذهبهم، رغم أن المسيحية كانت قد صارت الدين الرسمي للإمبراطورية.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمصريين
عاش المجتمع المصري في ظل الحكم الروماني في حالة من الانقسام الطبقي الحاد، حيث تمركزت السلطة والثروة بيد الرومان واليونانيين وبعض اليهود المقربين من روما، بينما ظل المصريون مُهمشين ومحرمين من حقوقهم الأساسية. لم يُسمح لهم بالوصول إلى المناصب العامة أو العسكرية، وكان يُنظر إليهم كغرباء في أرضهم.
وبسبب الضغوط السياسية والدينية والاجتماعية، لجأ كثير من القادة الدينيين المسيحيين إلى حياة التنسك في الأديرة والكهوف، هربًا من الاضطهاد. وقد ازدهرت حركة الرهبنة في مصر في هذا العصر، وكان لها أثر عميق في الحياة الدينية والاجتماعية لاحقًا. بعض الرهبان التحقوا بطريق الزهد والتعبد، في حين انحرف آخرون إلى السطو والنهب مستغلين الظروف المتردية.
خاتمة
لقد كانت مصر في الحقبة الرومانية مسرحًا للتحولات الكبرى، من فقدان الاستقلال إلى الاستغلال الاقتصادي، ومن الوثنية إلى المسيحية، ومن الاندماج القسري إلى المقاومة الدينية والثقافية. ويظهر جليًّا أن الشعب المصري، رغم ما تعرض له من قمع واضطهاد وتمييز طبقي، احتفظ بخصوصيته الثقافية والدينية، واستطاع أن يحوّل المحن إلى حوافز للبقاء والتجذر.