التعبير عن الغضب:
قراءة نفسية–اجتماعية–فلسفية
مقدمة
الغضب أحد أقدم وأعمق الانفعالات الإنسانية التي رافقت الإنسان منذ نشأة وعيه. إنه طاقة متفجرة تتولد عند مواجهة الظلم أو الإهانة أو القهر أو حتى التهديد البسيط للنفس والكرامة. وقد رأى فرويد أنّ الغضب يمثل مظهراً من مظاهر "الهو" (Id) الذي يسعى إلى التنفيس الفوري عن التوترات الداخلية، في حين يحاول "الأنا" و"الأنا الأعلى" ضبطه ضمن الحدود الاجتماعية والأخلاقية. أما نظريات علم النفس الحديثة، مثل نظرية الانفعال لجيمس–لانج ونظرية كانون–بارد، فقد رأت في الغضب استجابة فيزيولوجية–انفعالية متكاملة، ترتبط بتغيرات في الجسم والنفس معاً.
ومن هنا، يصبح السؤال: كيف يمكن للإنسان أن يعبّر عن غضبه دون أن يدمّر نفسه أو يضرّ بالآخرين؟
أشكال التعبير الفردي عن الغضب
تتباين استراتيجيات الأفراد في التعبير عن الغضب وفق شخصياتهم وتجاربهم وخلفياتهم الاجتماعية.
• الترويح الاجتماعي: يرى بعض الشباب، مثل رفيق حسني (جامعة القاهرة)، أنّ الخروج مع الأصدقاء ومناقشة المشكلة يمثل وسيلة لتفريغ شحنة الغضب، خصوصاً عندما يكون السبب شعوراً بالظلم أو سوء الفهم.
• الهروب إلى الثقافة والفن: أما هبة صابر (جامعة عين شمس) فتعتبر أنّ القراءة ومتابعة الإعلام والموسيقى تشكّل متنفساً نفسياً في مواجهة الإهانات أو العنف اللفظي.
• التفريغ الجسدي: يؤكد محمد عبد الحميد (جامعة المنوفية) أنّ ممارسة الرياضة تساعده على حرق الطاقة السلبية الناتجة عن الغضب.
• الحوار الافتراضي: بينما ترى ماجي حمدي (جامعة القاهرة) أنّ النقاش عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمنحها شعوراً بالارتياح، خصوصاً عندما تتعرض للاتهام الباطل.
• العزلة والتأمل: يفضّل أحمد عبد الرحمن (جامعة بنها) مواجهة الغضب بالصمت والتفكير الفردي بعيداً عن الآخرين، خاصة عندما يشعر بالقهر أو التمييز.
• المشورة الأسرية: تخالفه مي سالم (جامعة المنوفية) الرأي، إذ ترى أنّ الحوار مع الأب مصدر حكمة وطمأنينة، خصوصاً في مواجهة الإهانة.
هذه النماذج تكشف عن تنوع في طرق التنفيس بين الاجتماعي والفردي، وبين الانغماس في الحوار أو الهروب إلى العزلة.
المواجهة: الخطوة الأولى لفهم الغضب
يرى د. أشرف فرج (جامعة القاهرة) أنّ الغضب ينشأ غالباً من فقدان السيطرة أو من شعور بالإهانة أو الظلم. ويمر الإنسان في حالة الغضب بمشاعر متشابكة: الحزن، الاستياء، الإحباط، التوتر، بل أحياناً الكآبة.
العوامل المحفزة للغضب تشمل:
• الإرهاق والجوع والمرض.
• الألم الجسدي أو النفسي.
• إساءة استعمال العقاقير.
• الاضطرابات النفسية كالاكتئاب.
• بل حتى العوامل الدينية والاجتماعية التي تضغط على الأفراد.
إنّ مواجهة مصدر الألم مباشرة تعدّ أساساً في ضبط الغضب، وإلا تراكم الخوف وتحول إلى صراع داخلي أشد خطورة.
الغضب بين الضرورة والخطر
يؤكد د. فوزي عبد الرحمن (جامعة عين شمس) أنّ الغضب استجابة طبيعية تساعد الإنسان على الدفاع عن ذاته. لكنه يضيف أنّ التحول إلى العنف المنفلت يهدد التوازن الاجتماعي ويقود إلى انتشار الصراعات.
هنا يظهر البعد الفلسفي: فالغضب ليس شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل قوة محايدة يمكن أن تتحول إلى بناء أو تدمير. وقد عبّر أرسطو عن ذلك بقوله: "أن تغضب من الشخص المناسب، في الوقت المناسب، وللغاية المناسبة، وبالطريقة المناسبة، فذلك هو عين الفضيلة".
استراتيجيات إدارة الغضب في ضوء علم النفس الحديث
من أبرز الوسائل العملية التي ينصح بها المختصون:
1. منح النفس مساحة للتفكير قبل الرد.
2. التنفس العميق لتقليل إفراز الأدرينالين وإعادة ضربات القلب إلى توازنها.
3. الحوار البنّاء مع الطرف الآخر للبحث عن حلّ للمشكلة.
4. النشاط البدني كالرياضة والأعمال المنزلية لتفريغ الطاقة السلبية.
5. التأمل والاسترخاء لامتصاص الانفعالات.
ويشير د. وحيد مأمون (جامعة المنوفية) إلى خطورة كبت الغضب، حيث يؤدي إلى أمراض قلبية وضغط دم مرتفع وجلطة دماغية، فضلاً عن القلق والاكتئاب. لذلك، فالتعبير البنّاء عن الغضب ضرورة وجودية وصحية.
خاتمة
إنّ الغضب طاقة مزدوجة الوجه: قد يدمّر إن تُرك بلا وعي، وقد يبني إن وُجّه بوعي. بين منظور فرويد الذي رأى فيه صراعاً بين دوافع "الهو" وكوابح "الأنا الأعلى"، وبين علم النفس الحديث الذي يراه استجابة انفعالية قابلة للإدارة، نجد أنّ التحدي الأكبر أمام الإنسان هو الوعي بالغضب وتوجيهه إلى مسارات خلاقة.
فالغضب ليس عيباً في ذاته، بل هو قوة نفسية–اجتماعية–فلسفية كامنة، تحتاج إلى عقل يضبطها وقلب يحسن توجيهها.