أردشير... و"حياة النفوس"
في شيراز، حيث الشمس تلاعب مآذن القصور، وكان النسيم يحمل عطر الأرز والياسمين، حكم ملكٌ جليل يُدعى "السيف الأعظم شاه"، وكان، رغم هيبته وجلال سلطانه، قد أثقله الزمان بشوق لم يُجب... شوقٍ إلى وريث يُسند ظهر ملكه. وبعد سنين عجاف من الانتظار، تبسم له القدر فولد له غلام سمّاه "أردشير". نشأ الفتى كالقمر ليلة التمام، حسن الطلعة، بهيّ الشمائل، ونشأت معه آمال أبيه، فأحاطه بالعلم والرعاية، وربّاه على الخصال الملوكية والعزيمة الصارمة، حتى أصبح الشاب نجمًا تتلهف العيون لمرآه.
أما في العراق، فكان الملك عبد القادر يحكم أرضًا أخرى، وكان له زهرة بستانه، وابنته الوحيدة "حياة النفوس". لم تكن كغيرها من الأميرات، فقد رفضت كل من تقرّب إليها، وتوعدت أباها بالانتحار إن أرغمها على زواج. جمالها، رغم ذلك، بلغ كل الآفاق، حتى صار حديث الملوك والمجالس، لكنها كانت كمن يحيا في برجٍ من العزلة والعناد.
وصلت أنباء هذه الأميرة إلى مسامع الأمير أردشير، وكان في مجلسه يتناول حديث الشعراء والفقهاء، فلما سمع باسمها، صمت كأن قلبه قد خُطف، وسكن جسده كأن روحًا نزلت عليه. ازدادت نار شوقه اشتعالًا، فأسرّ إلى أبيه برغبته في الاقتران بها. رقّ له أبوه، وأرسل وزيره إلى ملك العراق، لكن الجواب كان صدمة: الرفض التام.
اهتز الملك الشيرازي غضبًا، وغلت الدماء في عروقه، وأقسم أن يمحو مملكة عبد القادر من الوجود. لكنه، قبل أن يعلن الحرب، سمع صوت ابنه يقول:
"مولاي، أبي، أيها الملك العظيم... إذا سقط عبد القادر، سقطت معه ابنته، وإن سقطت هي، سقطت روحي معها... أتراني أعيش بعدها؟ لا والله! دعني أذهب إليها خفية، في زيّ تاجر، أتحايل وأجرب حظي... فإما وصلٌ أو فناء."
أعجب الأب بحكمة ولده، وفطنته، وسرعة إدراكه للعواقب، فأرسل معه وزيره الأمين، وملأ راحتيه بالذهب والجواهر، وزوّده بكل ما يمكن أن يُغني رجلاً في رحلته إلى المستحيل.
سافر "أردشير" إلى "المدينة البيضاء"، وكان جماله يلفت الأنظار في سوق البزّازين حيث نصب دكّانه، حتى صار السوق ملتقى العيون والقلوب، لا لشراء ولا لبيع، بل لمجرد التفرج عليه!
وذات يوم، جاءت امرأة عجوز ذات هيبة تسأله عن بضائعه. تبيّن أنها مبعوثة من "حياة النفوس". أراد إهداءها شيئًا نفيسًا، فأعطاها حلةً تساوي عشرة آلاف دينار، ومعها قلبه في رسالة حب. أعجب العجوز ما رأت، فأقسمت أن تساعده، وبدأت المراسلة بين الأمير والأميرة. توالت الرسائل، حتى شكت فيه الأميرة، وأمرت بضرب العجوز وطردها. فخرجت مدماة الجسد، لكن قلبها لا يزال وفيًّا لذلك العاشق.
عادت إلى الأمير، فروت له سبب بغض "حياة النفوس" للرجال. كان حلمًا رأته في بستانها، حيث أنثى طير أنقذت ذكرها من شرك الصياد، ثم وقعت هي فيه، فلم يعد إليها! بل تركها حتى ذُبحت وهي وحيدة... فقالت بعد أن استيقظت:
"هكذا هم الرجال... تنكرٌ للمعروف، وجحود في ساعة الخطر. فلعنة الله على من وثق برجل!"
هزّ هذا الحلم أعماق أردشير، لكنه لم يتراجع. بل قال:
"لكل جرح دواء... ولكل ظلمة شعلة تنيرها. وأنا يا أماه شعلةٌ في دربها، إن قبلت."
أخبرته العجوز بأن الأميرة تنزل بستانها في موسم الثمر، فبدأ يتقرب من خولي البستان حتى كسب ثقته، ثم أصلح القصر المهجور بداخله، وجعل الرسامين ينقشون حلم "حياة النفوس" على جدرانه بدقةٍ مذهلة. وفي الرسم، الطير الذكر الذي خان، يناله عقاب قاسٍ من نسر جارح — رمزيةٌ لأمانة الحب وحقّ الرد.
وجاء اليوم الموعود. نزلت الأميرة تتجول بين الزهور، تدخل القصر، فتفاجأ بالرسم! ذُهلت، وشعرت بأن قلبها بدأ يخون كبرياءها، خاصة حين قالت مربيتها:
"ليس كل الرجال خونة... منهم من يكون جناحًا، لا خنجرًا."
ثم قالت العجوز كلمتها السرّية: "يا حنينًا بلطفه"، فخرج الأمير من مخبئه.
نظرت إليه... سكنت اللحظة، وسكتت العصافير، وتاهت الحواس. اقترب، ومدّ يده، فارتعشت يدها في كفّه. هناك، في عناق النظرات، تمّ أول وعد بالحب، وخُتم بالقُبلة الأولى.
ثم بدأت فصول التلاقي تتكرّر، حتى تسلل الأمير ذات ليلة إلى القصر في زيّ جارية، وقضى الليلة في حضنها. لكن الخادم "كافور" الذي كان حاقدًا على الأميرة، قبض عليهما متلبّسين بالهوى، فأخبر الملك!
غضب عبد القادر، وأمر بإعدامهما فورًا. في فجر اليوم التالي، جُرَّا إلى النطع، ووقف السياف يوشك أن يهوي بالسيف.
لكن القدر لا يخذل العاشقين. ظهر جيش "السيف الأعظم شاه" عند تخوم المدينة، والرايات تلوّح والغبار يعلو، فامتنع الجلاد. وبعد التحري، ظهر أن الشاب المحكوم عليه ليس غريبًا... إنه أمير شرعي، وها هو والده قادم ينقذه.
حين عرف عبد القادر الحقيقة، دمعت عيناه، وضم ابنته بين ذراعيه، ثم قال:
"إن كان هذا الحب نقيًّا كما تقولون... فليكن زواجًا مباركًا!"
وهكذا، عادت حياة النفوس لتزهر من جديد، لا في البستان وحده، بل في قلبها. وارتفعت الزغاريد، وسارت الأميرة في موكب الزفاف مع أميرها، عائدة إلى مملكة شيراز، في أبهة مهيبة، كأنها أسطورة نسجها الزمان من خيوط المجد والحب.