الملك إدوارد الرابع واليصابات جراي
قصة حبٍّ وعرش
أنا الملك.
لم يكن يعلم أن تلك الكلمة، التي نطق بها بهدوء أمام فتاة ريفية في الغابة، ستغيّر مجرى حياته، وتُربك حسابات الممالك وتُشعل ثورة في البلاط.
كان إدوارد الرابع، شابًّا ملكًا حديث العهد بالتاج، يمتطي جواده عبر الغابة الصامتة. الطبيعة من حوله ساكنة، إلا من زقزقة طيور الربيع. وفجأة، توقفت عيناه عند ظل امرأة جالسة تحت شجرة بلوط ضخمة، وقد تدلّى شعرها الذهبي على طفل صغير بين ذراعيها، وخداها يتوردان بحمرة خفيفة كأنها آتية من سفر طويل.
لم يتحرك. ظلّ يحدّق فيها وكأن جنية خرجت له من بين الأغصان. رفعت رأسها، التقت عيناهما، فقامت بخجل واقتربت منه قائلة بلطف:
يا سيدي، إني أبحث عن الملك، ولا أعرف الطريق… هل تدلّني على جلالته؟
ابتسم إدوارد في داخله، وأجابها بنبرة حيادية يخفي بها هويته:
جلالته في قلعة فازرنجاي، على بعد أميال من هنا… وما حاجتك بالملك؟
ترددت، لكنها نظرت إلى ملامحه الرقيقة، إلى عمره القريب من عمرها، وأحست بألفة غريبة، فقالت:
لقد قُتل زوجي في حروب الملك، وصودرت أرضنا وأموالنا، أريد أن أستعطفه… أن يرد لأطفالي ميراث أبيهم.
سكت قليلاً، ثم نطق بكلمتين فقط، حازمتين، لا تحتملان التفسير:
أنا الملك.
جثت على ركبتيها، تتشبث بطفلها، تخشى الغضب، ترتجف من المجهول. لكنه سألها بصوت رقيق:
وما اسمك؟
هنا خفق قلبها بعنف؛ فهي تحمل اسمًا من أسرة يبغضها الملك، اسمًا أقسم أن يمحوه من أرض إنجلترا. وبعد لحظة صمت، قالت بصوت ضعيف:
اليصابات جراي… ابنة السير ريتشارد ودفيل.
اقترب منها، مدّ يده وساعدها على النهوض بلطف، ثم قال دون أن يظهر شيئًا مما جال في خاطره:
قد تُجاب رغباتك. الليلة… سأكون ضيفًا عندكم.
كان قصر آل ودفيل في نورثمبتون بسيطًا، لا رفاهية فيه ولا أرائك من حرير. فقد أنهكته الحرب، وكان والد اليصابات قد وقف مع أسرة لنكستر المهزومة. ومع ذلك، لم تمنع قسوة الزمن الملك الشاب من تكرار الزيارة. كان يختلق الأعذار، يتسلل من حرسه، ويمتطي جواده إلى الغابة، إلى شجرة البلوط… إلى اليصابات.
وفي كل مرة، يزداد إعجابه، يشتد حبه، ويغمره صراع عنيف بين قلبه وعرشه. فهي أرملة عدو، لا حسب لها ولا نسب ملكي، وهو ملك، تطارده العيون، وتطارده خطط أمه والمستشارين. كانوا يريدون له أميرة من بيت سافوي، أو من النبلاء، لكنه لم يرَ في الكون كله امرأة غير اليصابات.
وأخيرًا، حين اشتد الهيام ولم يعد الصبر ممكنًا، أخذها في ليلة خفية إلى كنيسة قريتهم الصغيرة، بصحبة والدها ووالدتها، وهناك، تحت ضوء الشموع الخافت، في سكون الفجر، تزوّجا سرًا.
عاد كلٌّ إلى مكانه، اليصابات إلى فراشها الصغير، والملك إلى قصره، محمّلين بقبلة واحدة وميثاق حبٍّ سرمديٍّ لا يعرف الخوف.
لكن الحب السري لا يدوم سرًّا طويلًا.
وحين جاء وارويك من سافوي، حاملاً أخبار الأميرة بونا وجمالها وثروتها، وألحّت الأم "سيس الفخورة" على اختيار ليدي اليصابات لوسي، وقف الملك حائرًا. ثم حسم أمره في لحظة صدق قائلاً:
ـ لقد تزوّجت.
شهقت أمه، وصرخ عمه:
ممن؟!
أجاب:
من اليصابات ودفيل.
اشتعل البلاط، ثار وارويك، ولعنت الملكة الأم اليوم الذي دخلت فيه تلك المرأة إلى حياة ابنها. طالبوا بالطلاق، بالإنكار، بالتحلل من الوعود… لكنه رفض.
قالها بوضوح:
ـ لن تكون زوجتي فقط… بل ستكون الملكة.
ولأن العروش لا تُبنى على الحب وحده، استعان إدوارد بعلماء الأنساب، ليبرر زواجه أمام العرف والنسب والتقاليد. بحثوا وفتشوا حتى وجدوا في دماء اليصابات خيطًا يصلها بنسب ملكي بعيد، لكن كافٍ.
وفي كاتدرائية ريدنج، أُعيد الزفاف، لكن هذه المرة أمام الجميع. ارتدت اليصابات تاج الملكة، وسارت على درجات المذبح يرافقها الملك، بينما انحنى لها النبلاء… وانحنى لها زوجها بعينيه، وفي عينيه حبٌّ لا يشبهه حب.
وهكذا، تحوّلت فتاة الغابة الريفية ، التي جلست تحت شجرة بلوط تحتضن طفلها، إلى ملكة إنجلترا.