الحركة الفنية النسوية في الولايات المتحدة

الحركة الفنية النسوية في الولايات المتحدة
نشأت الحركة الفنية النسوية في الولايات المتحدة في أوائل سبعينيات القرن العشرين في ظل تحولات اجتماعية وسياسية كبرى رافقت صعود الموجة النسوية الثانية. لم تكن هذه الحركة مجرد ظاهرة فنية عابرة، بل شكلت ثورة فكرية وجمالية سعت إلى إعادة تعريف موقع المرأة في تاريخ الفن وفي الحقل الاجتماعي والثقافي عامة. لقد أرادت أن تفكك بنية الهيمنة الذكورية في المؤسسات الفنية، وأن تبرز التجربة الأنثوية بوصفها مصدرًا للإبداع والمعنى. ومن هنا ارتبطت الحركة بوعي فلسفي ونفسي يسائل الأدوار الاجتماعية للمرأة، ويضع خبراتها الشخصية في صميم الفعل الفني تحت شعار: "الشخصي هو سياسي". أهداف الحركة 1. إبراز فن المرأة كان الهدف الأول يتمثل في الاعتراف بإبداع المرأة وتاريخها الفني الذي طالما حُجب أو هُمِّش داخل السرديات الكبرى للفن الغربي. من خلال الدراسات والمعارض والبرامج التعليمية، عملت الفنانات والناقدات على استعادة حضور المرأة في سجل الإبداع. 2. التعبير عن التجربة الأنثوية سعت الحركة إلى أن يكون الفن لغة للتجربة الداخلية للمرأة: جسدها، عاطفتها، علاقتها بالبيت والمجتمع، معاناتها من التهميش. هنا يصبح الفن وسيطًا للتحرر النفسي والفلسفي معًا، حيث يُعاد التفكير في معنى الأنوثة بوصفها خبرة معيشة لا مجرد رمز ثقافي. 3. تغيير النظرة إلى الفن تجاوزت الحركة حدود الإضافة النسوية إلى التاريخ الفني، لتؤكد أن الفن لا يُفهم إلا بإدماج التجارب الأنثوية. هكذا أعادت صياغة تعريف الفن ذاته، بوصفه فضاءً مشتركًا للتعددية لا حكراً على الذكورة أو المعايير التقليدية للنبوغ. الفنانات الرائدات تكوّن جيل أول من الفنانات حمل على عاتقه تأسيس المشروع النسوي الفني: • جودي شيكاغو: صاحبة العمل الشهير «المائدة» (The Dinner Party)، الذي أعاد الاعتبار لتاريخ النساء المغمورات عبر احتفاء فني رمزي بهن. • ميريام شابيرو: أسهمت في تأسيس برامج الفن النسوي والتصميم النسائي بمعهد كاليفورنيا للفنون، وأكدت على أهمية التعليم كمجال تحرري. • سوزان لاسي و جوديث بيرنشتاين و كارولي شنايمان و شيلا دي بريتفيل: قدّمن مشاريع جماعية وأعمالًا أدائية وجسدية أعادت تعريف علاقة الجسد بالسياسة والفن. هؤلاء الفنانات لم يكتفين بالإنتاج الفني، بل أسسن لمؤسسات، وبرامج، وشبكات، كان لها أثر بعيد المدى في تكريس الفن النسوي كحركة فكرية وفنية متكاملة. المنهجيات والأدوات اعتمدت الحركة على أشكال احتجاجية وتنظيمية متنوعة جسدت روح المقاومة والإبداع معًا: • الاحتجاجات المتحفية: مثل احتجاج نيويورك (1970) ولوس أنجلوس (1971)، التي فضحت التمييز ضد الفنانات. • الشبكات والنشرات: مثل شبكة WEB التي عمّمت أخبار الفن النسوي على المستوى الوطني. • المؤتمرات: مثل مؤتمر فنانات الساحل الغربي (1972) ومؤتمر المرأة في الفنون البصرية (1972)، حيث التقت الفنانات لتبادل الخبرات وصياغة استراتيجيات جديدة. • المشاريع الجماعية: مثل مشروع «بيت المرأة» (Womanhouse)، الذي حوّل بيتًا مهجورًا في لوس أنجلوس إلى عمل فني جماعي يستكشف أبعاد التجربة المنزلية والأنثوية. البعد الاجتماعي والفلسفي كانت الحركة جزءًا من نسيج اجتماعي متوتر، حيث صعدت أصوات النساء للمطالبة بالمساواة في مجالات السياسة والعمل والتعليم. جاء الفن النسوي ليترجم هذا الحراك الاجتماعي إلى لغة رمزية، تجعل من الأعمال الفنية نقدًا لصور المرأة النمطية في الثقافة والإعلام. فلسفيًا، شكّل الفن النسوي سؤالًا عن علاقة الجسد بالسلطة، وعن الكيفية التي يُستعمل بها الفن لتثبيت أو لتفكيك أنماط الهيمنة. في هذا السياق، ارتبطت الحركة بأفكار ميشيل فوكو حول الجسد والسلطة، وبالفكر النقدي الذي يرى في الفن أداة مقاومة. الأنشطة الرئيسية للحركة فن الصيانة في مقالها «فن الصيانة: اقتراح لمعرض» (1969)، قدّمت ميريل لدرمان يوكليس مفهومًا ثوريًا: أن الأعمال المنزلية من تنظيف وطهي وتربية أطفال ليست مهمات تافهة، بل هي فعل إبداعي قائم على الصيانة والاستمرارية. بهذا أعادت تعريف العلاقة بين الفن والعمل المنزلي، وطرحت الجسد والبيت كمسرح سياسي. تحالف عمال الفن عام 1969 نشأ تحالف عمال الفن الذي طالب بتمثيل متساوٍ للنساء والأقليات في المتاحف وصالات العرض. كان التحالف خطوة عملية للضغط المؤسسي، إذ لم يكتفِ بالنقد بل سعى لإصلاح السياسات الفنية. التعليم النسوي للفن أطلقت جودي شيكاغو أول برنامج للفن النسوي في كلية فريسنو عام 1970، حيث اجتمعت الطالبات لإنتاج أعمال تعكس تجاربهن الخاصة. لاحقًا تطورت هذه البرامج في معهد كاليفورنيا للفنون، لتصبح نموذجًا للتعليم النقدي الذي يدمج بين الفن والخبرة الذاتية. تأثير الحركة أحدثت الحركة الفنية النسوية تحولًا جذريًا في خريطة الفن الغربي. لم يعد من الممكن تجاهل أعمال النساء، بل باتت صالات العرض الكبرى مضطرة لفتح أبوابها أمامهن. كما أُعيد النظر في مناهج تاريخ الفن، حيث صار لزامًا إدراج إسهامات النساء في السردية التاريخية. لكن الأثر الأعمق كان نفسيًا وفلسفيًا: فقد منحت الحركة الفنانة المرأة شرعية الوجود الفني، وأعادت تعريف الذات الأنثوية في علاقتها بالعالم. لم تعد المرأة مجرد موضوع للرسم (الموديل أو الملهمة)، بل أصبحت ذاتًا فاعلة، مبدعة، وصاحبة خطاب جمالي. نقد داخلي وأسئلة مفتوحة رغم نجاحها، تعرضت الحركة لانتقادات من داخلها: • تهميش الأقليات: إذ شعرَت نساء سوداوات ولاتينيات أن الحركة ركزت على تجربة المرأة البيضاء من الطبقة الوسطى. • إشكالية الجوهرية الأنثوية: حيث اتُهم بعض الفنانات بترسيخ فكرة أن هناك "فنًا نسويًا" واحدًا يعكس طبيعة جوهرية للمرأة، بينما أكدت أخريات على التعددية والتقاطعية. هذه النقاشات عمّقت البعد الفلسفي للحركة، إذ أعادت طرح سؤال: هل الفن النسوي هو فن "نساء" فقط، أم هو مشروع نقدي مفتوح يخص قضايا السلطة والهوية عامة؟ مساهمات نقدية وفكرية مقال ليندا نوتشلين: "لماذا لم توجد فنانات عظيمات؟" شكّل هذا المقال (1971) نصًا تأسيسيًا للفكر الفني النسوي، إذ بيّنت نوتشلين أن غياب الفنانات العظيمات في التاريخ ليس نتيجة نقص في الموهبة، بل بسبب البُنى المؤسسية الذكورية التي منعت النساء من التعليم والفرص. كان هذا النص دعوة لإعادة كتابة تاريخ الفن من منظور نسوي. لوسي ليبارد ومهام النقد النسوي قدّمت الناقدة لوسي ليبارد ثلاث مهام أساسية: 1. البحث عن الأعمال الفنية للنساء وتقديمها. 2. تطوير لغة نقدية خاصة بالفن النسوي. 3. صياغة تاريخ بديل يضع تجارب النساء في المركز. بهذا أكّدت أن الفن النسوي لا يقتصر على الممارسة الفنية، بل يشمل إنتاج المعرفة والتأريخ. خاتمة الحركة الفنية النسوية في الولايات المتحدة ليست مجرد فصل في تاريخ الفن الحديث، بل هي ثورة إبستمولوجية وجمالية غيرت طرائق النظر إلى الفن والمجتمع والذات. لقد أظهرت أن التجربة الأنثوية ليست هامشًا يمكن تجاوزه، بل هي مركزية لفهم الإنسان والفن على حد سواء. اليوم، وبعد مرور عقود، ما زالت أسئلة هذه الحركة قائمة: كيف نعيد التفكير في التمثيل؟ كيف نضمن العدالة الجندرية في المؤسسات الثقافية؟ وكيف يمكن للفن أن يظل فضاءً للتحرر النفسي والاجتماعي والفلسفي؟ إن الحركة لم تنتهِ، بل تحولت إلى تيار عالمي يواصل مساءلة حدود الفن والهوية والمعنى.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال