الألتراس والالتباس
في علاقة الشباب بالسياسة
دراسة اجتماعية-نفسية-فلسفية في التحول من الفرجة إلى الفعل السياسي
المقدمة
يبدو أن كرة القدم لم تعد مجرد لعبة تُمارس فوق العشب الأخضر، بل تحولت إلى فضاء رمزي مكثف يجتمع فيه الجسد والوجدان والسياسة. فالعالم الذي قيل إنه أصبح قرية صغيرة، انكمش اليوم في كرة مستديرة تُدار عليها صراعات الهوية والانتماء والسلطة. لقد أصبحت المستطيلات الخضراء مرايا لواقع المجتمعات، تعبّر فيها الجماهير عن وعيها السياسي والاجتماعي المكبوت، وتحول فيها الهتافات إلى بيانات احتجاجية تتجاوز حدود الرياضة إلى عمق الفعل السياسي والثقافي.
تُعدّ ظاهرة "الألتراس" من أبرز التعبيرات الجديدة لهذا الوعي الجمعي، إذ انتقلت من كونها حركات تشجيع جماهيرية إلى تنظيمات شبابية تحمل خطاباً احتجاجياً ضد المؤسسات التقليدية، بما فيها الأحزاب والسلطات السياسية والإعلامية. وتكشف هذه الظاهرة عن تحولات عميقة في علاقة الشباب بالسياسة، وعن أزمة الثقة التي دفعتهم إلى البحث عن بدائل جديدة للتعبير والانتماء.
أولاً: من الأغنية السياسية إلى المدرج الجماهيري
عرف المغرب والعالم العربي منذ ستينيات القرن الماضي ظاهرة الأغنية السياسية التي كانت تعبّر عن الهم الاجتماعي والاحتجاج على السلطة. فقد غنت فرق مثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"المشاهب" بالعربية أو الأمازيغية تعبيراً عن الغضب الجمعي، لتصبح الأغنية لسان حال الشارع. ومع تراجع الفضاءات السياسية التقليدية، انتقلت تلك الأغنية من المسارح والساحات العامة إلى مدرجات الملاعب.
لقد أصبحت الملاعب امتدادًا للشارع السياسي، حيث تحوّل التشجيع إلى منصة للتعبير عن الرأي العام، وتحوّلت الشعارات الرياضية إلى أهازيج احتجاجية. فالأغنية التي كانت تصدح بها "الألتراس" لم تعد مجرد ترفيه، بل أصبحت تمثل صوت الوعي الاجتماعي والسياسي الجديد. ويبرز مثال أغنية "في بلادي ظلموني" التي أطلقها مشجعو فريق الرجاء البيضاوي المغربي نموذجًا على هذا التلاقي بين الاحتجاج والفن، حيث تحولت إلى نشيد عالمي ضد الظلم الاجتماعي والسياسي، تداولها الملايين عبر المنصات الرقمية، لتجسّد التحول من المحلية إلى الكونية في الخطاب الجماهيري.
ثانياً: الألتراس كبديل عن الحزب السياسي
تُعد ظاهرة الألتراس انعكاساً لانهيار الثقة بين الشباب والمؤسسات السياسية. فالأحزاب لم تعد تُعبّر عن طموحاتهم، بل صارت في نظرهم آليات بيروقراطية مغلقة تمارس الإقصاء والتدجين. أما الملاعب فقد وفّرت فضاءً حرّاً للتعبير والانتماء، حيث يتحول عشق الفريق إلى بديل للهوية السياسية، ويصبح التشجيع نوعاً من الممارسة الجماعية للحرية.
لقد أزاحت مجموعات الألتراس الزعيم السياسي من المشهد، واستبدلته بما يمكن تسميته بـ "روح الجماعة"، تلك الطاقة التي تذيب الفرد في الكلّ وتمنحه شعوراً بالانتماء والفاعلية. فالمشجع لا يبحث عن مصلحة أو مكسب، بل عن معنى للوجود داخل جماعة تشاركه الولاء والشغف. وهنا تتحول الملاعب إلى مختبر نفسي-اجتماعي يكشف عن الحاجة إلى الانتماء في زمن التشتت الفردي.
وهذا ما يجعل الألتراس أكثر من مجرد ظاهرة رياضية، بل حركة شبابية رمزية تعبّر عن توق الجيل الجديد إلى بديل سياسي-اجتماعي يتجاوز أشكال التنظيم القديمة، ويعيد تعريف السياسة بوصفها تجربة وجدانية جماعية لا مجرد مؤسسة بيروقراطية.
ثالثاً: الألتراس في ضوء علم النفس الاجتماعي
من منظور سيكولوجي، يمكن قراءة الألتراس كظاهرة تعكس دينامية "العقل الجمعي" التي وصفها غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير حين قال:
"إن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها شيء، وهي القوة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار."
في ضوء هذا التحليل، تتجلى الألتراس بوصفها تجسيداً عملياً للجماهير الحديثة التي فقدت ثقتها في السلطة لكنها لم تفقد قدرتها على الفعل الجماعي. فالتنظيم اللامركزي، وغياب الزعيم، وتكافؤ الأعضاء في الشعور والمسؤولية، كلها عناصر تخلق نموذجاً جديداً من الوعي الجمعي القائم على الحب والعقيدة لا على المصلحة والمنفعة.
ومن هنا يمكن القول إن الألتراس تمثل عقيدة وجدانية-نفسية أكثر منها تنظيماً سياسياً. فهي تقوم على الانفعال المشترك، وعلى الشعور بالقداسة تجاه الفريق، وعلى تماهي المشجع مع رموز النادي إلى درجة التضحية. وهذا ما يجعلها بيئة خصبة لانتقال الانفعال من الرياضة إلى السياسة، إذ تتحول الحماسة الرياضية إلى طاقة احتجاجية عند أي شعور بالظلم أو القهر الاجتماعي.
رابعاً: البنية التنظيمية والرمزية للألتراس
من الناحية التنظيمية، تعمل مجموعات الألتراس وفق نموذج شبكي مستقل، بلا قيادة رسمية أو هياكل ظاهرة. فهي تنظيمات أفقية توزع الأدوار بحسب الكفاءة لا المركزية. ويضم كل فريق مجموعات فرعية تتولى مهام التنظيم، التمويل، الدخلات (العروض البصرية)، التوثيق، والدعم التقني.
تعتمد هذه المجموعات على التمويل الذاتي عبر بيع القمصان والمنتجات الرمزية، رافضة أي تمويل خارجي من الأندية أو رجال الأعمال، حفاظاً على استقلاليتها و"طهارتها" من التسييس.
أما رموزها فتمثل لغة بصرية-فكرية قائمة بذاتها:
• الباتش (Patch): شعار المجموعة الذي يعبر عن هويتها وكرامتها.
• التيفو (Tifo): العرض الجماعي في بداية المباراة الذي يحمل رسالة سياسية أو رمزية.
• الكورفا (Curva): المدرج الذي يحتضنهم بوصفه "المعبد" الجماهيري للطقوس الجماعية.
• الكابو (Capo): الصوت القائد للأهازيج الذي يجسد روح الجماعة.
هذه الرموز تكوّن ما يمكن تسميته بـ "الميثولوجيا الجماهيرية"، حيث تُستبدل الأيديولوجيا السياسية بالأسطورة الرياضية، ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي عبر الطقس والاحتفال والحركة.
خامساً: الألتراس والسياسة بين التوظيف والتحرر
تظل العلاقة بين الألتراس والسياسة علاقة ملتبسة بين التوظيف والتمرد. فمن جهة، تحاول الأنظمة السلطوية استغلال شغف الجماهير لتفريغ طاقتها في الانتصارات الرياضية، وصرفها عن القضايا الجوهرية، بما يشبه سياسة "الخبز والفرجة". ومن جهة أخرى، تظهر في لحظات الأزمة قوة الألتراس كفاعل سياسي غير قابل للضبط، إذ تستطيع أن تحشد الجماهير وتُعبّر عن غضبها خارج الأطر الرسمية.
وقد أظهرت التجارب العربية، من مصر إلى المغرب وتونس، أن الألتراس كانت في بعض المراحل أداة احتجاج حقيقية ضد السلطة، مثلما حدث أثناء الثورات العربية، حين تحولت الهتافات الرياضية إلى شعارات سياسية. غير أن هذا الوعي الثوري لم يكن دائماً متماسكاً، فغياب التأطير الفكري يجعل بعض المجموعات عرضة للاختراق أو الانزلاق إلى العنف والفوضى، لتتحول من صوت احتجاجي إلى أداة شغب.
وهنا يتجلى البعد النفسي-السياسي للظاهرة: فهي تعبير عن بحث الشباب عن هوية وفاعلية في عالم يشعرون فيه بالتهميش. فحين يغيب الإحساس بالمشاركة السياسية الحقيقية، تصبح الملاعب فضاءات بديلة للحرية، وتغدو صيحات التشجيع نوعاً من المقاومة الرمزية ضد القهر.
سادساً: فلسفة الألتراس – بين الحب والتمرد
إن تحليل الألتراس فلسفياً يقودنا إلى مفهوم الانتماء والتمرد في آن واحد. فهؤلاء الشباب يعيشون حالة وجدانية فريدة تجمع بين الحب المفرط والرفض المطلق. إنهم يحبون النادي كما يحب الصوفي معبوده، لكنهم يرفضون السلطة التي تفرغ هذا الحب من معناه.
فالعشق هنا يتجاوز الفردي إلى الجماعي، ويتحول إلى طاقة وجودية تبحث عن معنى في عالم يزداد تفككاً.
يمكن القول إن الألتراس تمثل شكلًا جديدًا من المواطنة الوجدانية، حيث ينتمي الفرد إلى جماعة تشاركه الوجدان والرمز أكثر مما تشاركه الجغرافيا أو السياسة. وهذا يعكس تحوّلاً في مفهوم الانتماء ذاته، من الانتماء إلى الوطن أو الحزب إلى الانتماء إلى هوية رمزية مشتركة.
إنهم أبناء عصر العولمة الرقمية الذين صنعوا لأنفسهم فضاءً ثالثاً بين الدولة والسوق: فضاء الوجدان الجمعي، حيث يتم التعبير عن السياسة بلغة العاطفة لا بلغة الخطاب الرسمي. وهنا يلتقي الألتراس مع الحركات الشبابية الجديدة التي تعيد تعريف السياسة بوصفها فعلاً شعورياً وجمالياً بقدر ما هي فعلاً مؤسساتياً.
سابعاً: المخاطر والآفاق
رغم جمالية هذا الوعي الجماعي، تبقى هناك مخاطر حقيقية في تحوّل الألتراس إلى بؤر للعنف أو أدوات في يد أطراف سياسية. فغياب التأطير الفكري، وصعوبة تحقيق الإجماع الداخلي، يجعلها عرضة للاختراق أو التسييس. كما أن الإحساس بالتماهي الكامل مع الجماعة قد يقود إلى ذوبان الفرد في القطيع وفقدان الحس النقدي.
ومع ذلك، فإن الألتراس تقدم نموذجاً فريداً في تنظيم الذات الشبابية خارج الإطار الرسمي، بما يحمله من طاقات خلاقة في مجالات الفن والمبادرة والاتصال الاجتماعي. فإذا تم احتواؤها تربوياً وثقافياً دون وصاية، يمكن أن تتحول إلى مدرسة في المواطنة والحرية والانتماء.
الخاتمة
إن ظاهرة الألتراس تكشف بعمق عن تحولات الوعي السياسي والاجتماعي لدى الشباب المعاصر، وعن انتقال السياسة من المنابر الحزبية إلى فضاءات الحياة اليومية. فقد غدت الملاعب مختبراً لعواطف الأمة، ومسرحاً للتعبير عن الغضب والأمل معاً. وبين الهتاف والشمروخ، بين الأهازيج واللافتات، يعلن الشباب عن وجودهم كقوة رمزية تبحث عن مكانها في عالم فقد البوصلة.
وهكذا يتبين أن العلاقة بين الرياضة والسياسة ليست علاقة خارجية أو عرضية، بل هي تجسيد لصراع أعمق بين الحرية والهيمنة، بين الوجدان والمؤسسة. فالألتراس ليست مجرد جماعة تشجع فريقاً، بل هي تجسيد فلسفي لقلق جيل يبحث عن ذاته في زمن الاغتراب، وعن صوتٍ يسمع في عالم يزداد صمماً تجاه معاناة الشباب.
في النهاية، يمكن القول إن "الألتراس" هم أبناء عصرهم، يصرخون بلغة الكرة عن مأساة السياسة، يغنون في الملاعب ما لا يستطيعون قوله في البرلمانات، ويكتبون بأهازيجهم حكاية جيلٍ آمن بأنّ الكرة قد تكون آخر مسرحٍ للحرية