الاغتصاب خلال حرب البوسنة
دراسة اجتماعية نفسية فلسفية
المقدمة
لم يكن الاغتصاب في حرب البوسنة مجرد فعل عنف فردي أو تجاوز عرضي ناتج عن الفوضى التي ترافق الحروب، بل كان سلاحًا استراتيجيًا استُخدم بوعيٍ تام لتحقيق غايات سياسية وإثنية أعمق. لقد تحوّل جسد المرأة، والإنسان عمومًا، إلى ساحة معركة خفية، يتجسد فيها التطهير العرقي في أبشع صوره، حيث يتم انتهاك الكرامة الإنسانية وتحويل الأجساد إلى رموز للهيمنة والسيطرة والإذلال.
وفقًا لتقديرات دولية، بلغ عدد النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب خلال حرب البوسنة ما بين 12,000 و50,000 امرأة، معظمهن من البوشناق المسلمين، فيما تم تسجيل حالات عديدة ضد رجال وفتيان أيضًا. وقد وصفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة هذا الفعل بأنه جريمة ضد الإنسانية، معتبرةً الاغتصاب المنهجي والاستعباد الجنسي أداة حرب لا تقل خطورة عن الإبادة الجماعية.
الخلفية التاريخية والسياسية
عرفت البوسنة والهرسك منذ زمن بعيد حالة هشاشة عرقية ودينية، إلا أن انهيار يوغوسلافيا الاشتراكية فجّر الصراع الكامن. إذ غذّت خطابات القومية الصربية بقيادة سلوبودان ميلوسيفيتش نزعة الانتقام، عبر خطاب يستحضر معارك تاريخية وأحداثًا دموية، ويصور البوشناق على أنهم "غرباء" أو "أتراك" يتوجب طردهم.
في هذا المناخ المسموم، تحوّل العنف الجنسي إلى سياسة منظمة. لم يكن الأمر مجرد انحرافات جنود في ساحة المعركة، بل مخططًا مدروسًا، وفق ما أكدته منظمة العفو الدولية ولجان خبراء الأمم المتحدة، حيث أُنشئت "معسكرات اغتصاب"، واعتُبرت الأرحام مسرحًا للتطهير العرقي عبر محاولة فرض نسل جديد قسريًّا.
الاغتصاب كسلاح للتطهير العرقي
الاغتصاب في هذه الحرب كان أداة لثلاثة أهداف رئيسية:
1. بث الرعب والتهجير القسري: إذ كان يُستخدم لإرهاب المجتمعات ودفعها إلى الهروب من مناطقها.
2. تدمير النسيج الاجتماعي: عبر وصم الضحايا بالعار، وكسر الروابط العائلية والمجتمعية.
3. فرض هوية قسرية: من خلال إجبار النساء على الحمل من المعتدين، بما يشكّل شكلًا من أشكال الإبادة الثقافية.
لقد جسّد المغتصبون، بوعي أو بغير وعي، فلسفة القوة التي ترى في جسد الآخر "أرضًا محتلة"، وفي رحم المرأة "وسيلة لإعادة إنتاج الهوية المعتدية". هذه الممارسة لا تمحو فقط وجود الضحايا، بل تعيد تشكيل المجتمع كله على صورة مشوهة.
شهادات ومعسكرات
كشفت شهادات ناجيات من معسكرات مثل فوتشا وأومارسكا عن فظائع لا توصف: قاصرات لم يتجاوزن الثانية عشرة أُجبرن على الولادة، وأمهات عُذّبن أمام أبنائهن، ورجال أُجبروا على اغتصاب نسائهم أو قريباتهم تحت تهديد الموت.
إحدى الشهادات من معسكر كالينوفيك أوضحت أن الجنود كانوا يقولون للضحايا: "ستنجبن أطفالنا، سيكون لديكن صغار الشيتنيك". بهذا الإعلان الصريح، يصبح الاغتصاب ليس فقط جريمة جسدية، بل فعلًا رمزيًا لتدمير هوية جماعة بأكملها.
الأبعاد النفسية والاجتماعية
كشفت الدراسات الطبية أن نسبة كبيرة من الناجيات عانين من اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب المزمن، وأفكار انتحارية، فضلًا عن مشكلات جسدية كآلام الجماع والعقم. لقد كان الجسد، بعد أن استُخدم كساحة حرب، يحمل ذاكرة الألم لسنوات طويلة.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أدى وصم الضحايا إلى مزيد من الإقصاء، حيث وجدت العديد من النساء أنفسهن منبوذات من عائلاتهن أو مجتمعاتهن، وكأنهن مذنبات، في حين أنهن كنّ ضحايا لجرائم ممنهجة. هذه المفارقة تعكس قسوة الأعراف الذكورية التي أضافت إلى الجريمة الأولى جريمة ثانية: الصمت والإقصاء.
اغتصاب الرجال: الطابو المسكوت عنه
رغم أن معظم الضحايا كن من النساء، إلا أن آلاف الرجال والفتيان تعرضوا للاغتصاب والتعذيب الجنسي أيضًا. هذه الجريمة، الأقل شهرة، كانت تهدف إلى إذلال الضحايا وتجريدهم من رجولتهم، إذ غالبًا ما يُنظر إلى الاعتداء على الرجل كتشويه لهويته الذكورية. هنا، يلتقي العنف الجنسي بالثقافة الذكورية، فينتج صمتًا مضاعفًا حول الضحايا الذكور.
العدالة والإجراءات القانونية
مثّلت محاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة علامة فارقة في التاريخ القانوني الدولي، إذ كانت المرة الأولى التي يُعترف فيها بالاغتصاب كسلاح حرب وجريمة ضد الإنسانية. قُدّم قادة مثل دراجولوب كوناراك ورادومير كوفاتش إلى العدالة، وصدر بحقهم أحكام بالسجن لعقود.
ورغم ذلك، يبقى عدد المحاكمات ضئيلًا مقارنة بعشرات الآلاف من الضحايا. ففي عام 2010، أكدت تقارير الأمم المتحدة أنه لم تتم مقاضاة سوى 12 حالة من بين ما يُقدّر بـ 50,000 – 60,000 حالة. هذا التفاوت يكشف عن فجوة هائلة بين حجم المأساة وقدرة العدالة الدولية على الاستجابة.
ما بعد الكارثة: الفلسفة والذاكرة
بعد اتفاقية دايتون عام 1995، لم يكن التحدي الأكبر إعادة بناء الحجر، بل إعادة بناء الذاكرة والهوية. فالاغتصاب لم يكن مجرد فعل جسدي، بل جريمة ضد الروح الجمعية، إذ زرع في المجتمع البوسني ندبة لا تمحى.
من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى هذه الجريمة كأقصى تعبير عن إرادة نيتشوية منحرفة للقوة، حيث يتحول الإنسان إلى أداة لإنكار الآخر ونفيه من الوجود. وهو أيضًا تجسيد لفكرة "العار الجماعي" التي تجعل الضحية تحمل وزرًا لا ذنب لها فيه، في حين يُفترض أن يقع العار على الجلاد.
إن الصراع في البوسنة لم يكن مجرد نزاع مسلح، بل مأساة إنسانية حيث حُوِّل الجسد إلى نصٍّ تُكتب عليه السياسة والتاريخ بالعنف. الجسد هنا لم يعد ملكًا لفرد، بل صار رمزًا لمصير أمة.
الخاتمة
الاغتصاب في حرب البوسنة ليس مجرد فصل من فصول التاريخ، بل مرآة تعكس مدى قدرة الإنسان على استغلال الجسد البشري كسلاح، وتحويل العلاقة بين الجنسين إلى أداة حرب. إنه يطرح أسئلة عميقة حول العدالة والذاكرة والهوية، ويضعنا أمام حقيقة قاسية: أن الحروب لا تُدار فقط بالمدافع والدبابات، بل أيضًا بالأرحام والأجساد.
إن دراسة هذه الجريمة في بعدها الاجتماعي والنفسي والفلسفي تكشف عن أن العنف الجنسي في الحرب هو تطهير مزدوج: تطهير للأرض من سكانها، وتطهير للذاكرة الجمعية عبر وصمها بالعار. وما لم يُعاد الاعتبار للضحايا، وتُروَ قصصهم، فإن الجرح سيظل مفتوحًا، ليس فقط في البوسنة، بل في الضمير الإنساني جمعاء.