الانتهازية
دراسة اجتماعية ونفسية وفلسفية
مقدمة
منذ فجر التاريخ، ظل الإنسان كائنًا محكومًا برغباته واحتياجاته، يسعى إلى تحقيق ذاته وصون بقائه عبر وسائل شتى. ومع نشوء الحضارات وتعاقب الأمم، ازدادت هذه الحاجات تعقيدًا وتشابكًا، فلم تعد مقتصرة على الضروريات البيولوجية من غذاء ومأوى، بل امتدت إلى مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق. وفي هذا السياق، برزت الانتهازية كظاهرة اجتماعية ونفسية وفلسفية، تمثل الوجه الخفي للنزعة الأنانية المتمثلة في استغلال الفرص والظروف لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، حتى ولو كان الثمن تدمير القيم الجماعية أو تقويض الثقة الاجتماعية.
فالانتهازية ليست مجرد سلوك فردي معزول، بل هي مؤشر على أزمة قيم، تعكس هشاشة الوعي الجمعي واضطراب العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين المبدأ والمصلحة، وبين الأخلاق والبراغماتية.
مفهوم الانتهازية
يمكن تعريف الانتهازية بأنها الاستفادة الأنانية من الظروف لتحقيق مكاسب شخصية، دون مراعاة للمعايير الأخلاقية أو النتائج المترتبة على الآخرين. وهي تقوم على عدة عناصر:
1. الاستغلال الذاتي: ممارسة واعية لتطويع الظروف لصالح الشخص، مع تجاهل مصلحة الجماعة.
2. المصلحة الشخصية: المحرك الجوهري للسلوك الانتهازي، حيث تُغَلَّب الرغبات الفردية على أي اعتبار آخر.
3. تعدد السياقات: إذ يمكن أن تتجلى الانتهازية في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وحتى في العلوم والطب.
وبهذا المعنى، فالانتهازية ليست مفهومًا ضيقًا، بل ظاهرة تتقاطع مع مختلف مستويات الحياة الإنسانية.
الانتهازية: من اللغة إلى المفهوم
اللفظ مشتق من "نهز" أي الاغتنام والمبادرة. ومن حيث الأصل اللغوي، فإن الاغتنام فعل قد يحمل معنى إيجابيًا، كما ورد في الأثر: «اغتنموا الفرص فإنها تمر مر السحاب». لكن التحول السلبي يحدث عندما يصبح اغتنام الفرص مجرد وسيلة لتحقيق منافع آنية ضيقة، بلا اعتبار للقيم أو للمصلحة العامة.
وإذا قارنا بين الرؤية الإسلامية وفكر ميكافيلي، يتضح الفارق:
• في الفكر الإسلامي، الاغتنام مقيد بنزاهة الوسيلة وسمو الغاية.
• أما في الفكر الميكافيلي، فإن الغاية تبرر الوسيلة، ولو كانت ملتوية أو ظالمة.
هكذا يمكن القول إن الانتهازية هي تحريف للمعنى الإيجابي للاغتنام، وتحويله إلى أداة لهدم القيم.
الانتهازية والنفاق: تقاطع وتشابه
لم يرد لفظ "الانتهازية" صراحة في النصوص الإسلامية، لكنه يقارب مفهوم النفاق. فكلاهما يقوم على الازدواجية وإظهار غير ما يُبطن المرء. إلا أن الفرق يكمن في الدافع:
• المنافق يسعى إلى تقويض المجتمع أو تقوية موقعه فيه بخطة محكمة.
• أما الانتهازي فيمارس المراوغة بدافع اللحظة، يغير مواقفه بحسب الظروف.
وقد أشار الرسول ﷺ إلى خطورة هذا النمط حين قال: «لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤوا أسأنا...». فالانتهازي إمَّعة، لا موقف له، بل يذوب في مواقف الآخرين وفق ما يحقق مصالحه.
أشكال الانتهازية
1. في الاقتصاد: قد تقدم الشركات معلومات ناقصة أو مضللة للتعاقد، أو تخفي التكاليف الحقيقية لتزيد أرباحها، مما يهدد مبدأ الشفافية.
مثال معاصر: بعض المؤسسات المالية التي بالغت في إخفاء مخاطر الرهون العقارية قبل أزمة 2008، فانهار الاقتصاد العالمي.
2. في السياسة: تتجلى في التخلي عن المبادئ لتحقيق نفوذ، أو في التحالفات المتقلبة التي تعكس مصلحة لحظية لا التزامًا بالقيم.
مثال تاريخي: تحولات بعض القادة في الحربين العالميتين، حيث تبدلت الولاءات وفق كفة الغلبة.
3. في العلاقات الاجتماعية: يظهر الانتهازيون في صورة "أصدقاء المصلحة" الذين يحضرون وقت الحاجة ويغيبون عند العطاء.
مثلًا: شخص يتقرب لزميله فقط لأنه ابن مدير مؤثر، ثم يهجره عند فقدان النفوذ.
4. في الطب: يُستخدم التعبير "العدوى الانتهازية" لوصف الميكروبات التي لا تسبب مرضًا عادة، لكنها تستغل ضعف المناعة لتغزو الجسد. وهو استعارة بليغة تصف الانتهازيين في المجتمع، فهم لا يزدهرون إلا في بيئات منهكة القيم.
خصائص السلوك الانتهازي
من أبرز السمات:
1. الخداع: إخفاء المعلومات أو تحريفها.
2. نكث الالتزامات: الوفاء بالوعود حتى تحقيق المصلحة، ثم التنصل منها.
3. التحايل والتملق: استخدام أساليب التزلف لكسب الثقة مؤقتًا.
4. التلون: التغير المستمر في المواقف تبعًا للظروف، كما تفعل الحرباء.
هذه السمات تجعل الانتهازي غير جدير بالثقة، ما يؤدي في النهاية إلى عزله اجتماعيًا.
السلوكيات الانتهازية: شواهد من التاريخ
• شبث بن ربعي: انتقل بين معسكرات متعددة، من مؤذن لسجاح، إلى مشارك في قتل عثمان، إلى مناصر للإمام علي ثم الخوارج، ثم كاتب للحسين لينقلب عليه، وأخيرًا من قتلة المختار.
• أبو موسى الأشعري: تردده بين علي ومعاوية يجسد صورة الانتهازي الذي يراهن على جميع الأطراف.
• أبو سفيان: مثَّل المساومة السياسية والانتهازية حين وجد أن مصلحة أسرته تتحقق بالتحالف مع السلطة القائمة.
هذه الأمثلة التاريخية تكشف أن الانتهازية ليست استثناء، بل ممارسة متكررة منذ القديم.
الانتهازية كظاهرة اجتماعية
حين تنتشر الانتهازية، تتحول من سلوك فردي إلى ثقافة اجتماعية. هنا تصبح القيم مقلوبة: الانتهازي يُعَد "ذكيًا"، والخداع يسمى "حنكة"، والتلون يصبح "براعة سياسية". وهذا الانقلاب القيمي هو الخطر الأكبر، إذ يخلق مجتمعًا هشًا، قائمًا على المظاهر لا الجوهر.
من الناحية النفسية، يمكن تفسير الانتهازية بأنها استجابة لا شعورية لحرمان أو قلق داخلي. فالإنسان الذي لم يحقق توازنًا بين حاجاته ورغباته قد يلجأ إلى أساليب ملتوية لتعويض النقص. لكن إذا غابت المبادئ والقيم، فإن هذه النزعة تتحول إلى أسلوب حياة دائم.
قراءة فلسفية للانتهازية
من منظور فلسفي، تمثل الانتهازية خللًا في علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين.
• فالوجود الحق يقوم على الصدق والوفاء والاتساق مع القيم.
• أما الانتهازية فهي تشويه للنغمة الكونية، حيث يتبدل الحق بالباطل، ويستعير الفرد أصالة ليست له.
هكذا، فالانتهازي يعاني أزمة وجودية: يبحث عن ذاته فلا يجدها، فيحاول استعارتها من الآخرين، لكنه يظل هشًا، متصدعًا، يسقط عند أول اختبار حقيقي.
النتائج النفسية والاجتماعية للانتهازية
1. على الفرد: يعيش الانتهازي في قلق دائم، لأنه يعلم أن صورته أمام الآخرين ليست حقيقية، وأن انكشافه محتمل في أي لحظة.
2. على المجتمع: تفقد الروابط الاجتماعية ثقتها، وينهار التضامن، ويُستبدل التعاون بالتنافس السلبي.
3. على الحضارة: تصبح الانتهازية قوة مدمرة من الداخل، تُهدر الطاقات وتزرع الانقسام.
خاتمة
الانتهازية ليست سلوكًا عابرًا، بل مرضًا ينهش المجتمعات من الداخل. فإذا تحولت إلى ثقافة، صارت قادرة على تقويض الثقة، وتدمير القيم، وإضعاف البنية الحضارية.
ولذلك، فإن العلاج لا يكون إلا بترسيخ قيم الصدق، والوفاء، والمبدأ في الضمير الفردي والجماعي، وبإعادة الاعتبار لفكرة أن المصلحة الحقيقية لا تتحقق إلا حين تُبنى على أسس أخلاقية صلبة.
فالانتهازية، وإن بدت طريقًا مختصرًا للنجاة الفردية، فهي في حقيقتها إفلاس إنساني يقود إلى انهيار المجتمع والحضارة