عطرها الأخير

عطرها الأخير
منذ ثلاثين عامًا كنتُ طالبًا في المرحلة الثانوية، عابثًا لا أعبأ بدروسي ولا بالامتحانات التي تُرهق زملائي. ذات يوم، غافلتُ البوّاب بعد الغداء ـ أو بالأحرى تغافل هو عني لقاء البقشيش الشهري ـ لأهرب من امتحان الهندسة. كنت أعرف مقهى صغيرًا في ناحية مهجورة، يقصده العشّاق طلبًا للخلوة. كثيرًا ما ذهبتُ إليه لأتفرّج على الحوادث الغرامية الغريبة التي تقع هناك. دخلتُ المقهى، فاستقبلني صاحبه بترحاب ماكر، وقادني إلى مقعدي المعهود الذي يكشف المكان بأسره. ثم قال لي بابتسامة خبيثة: ــ "المكان هادئ، يصلح للمذاكرة. سأُحضِر لك قهوتك وعلبة السجائر... هل يلزمك شيء آخر؟" أجبته: كلا، شكرًا. جلستُ متراخيًا، أدير عينيّ في أركان المقهى المظلمة. بدا لي خاليًا في بادئ الأمر، لكن حينما تأقلم بصري مع العتمة، رأيت شبحًا جالسًا في أحد الأركان. خُيّل إليّ أنه كائن غير بشري، أو صورة مُعلقة من عالم آخر. رجل ضئيل الجسد، ساكن لا يتحرك، عيناه تشتعلان كجذوتين معلّقتين في الفراغ. عاد صاحب المقهى يحمل طلبي، فتمتمتُ وأنا أُشير ناحية الشبح: "من يكون ذاك الجالس هناك؟" هزّ كتفيه قائلًا: "والله لا أعرف عنه شيئًا. دخل منذ ساعة، جلس في مكانه ولم يتحرك، شرب نصف زجاجة من الكونياك. إنه مخيف." وحينما التقت عيناي عينيه، شعرتُ برعشة تسري في جسدي. صرفت بصري عنه بسرعة وهمست: "حقًا... إنه مخيف." شغلت نفسي بالقهوة والدخان، لكن فجأةً أحسست بحركة خلفي جمدت الدم في عروقي. التفتُّ فإذا بالشبح قائم فوق رأسي، عينيه المتقدتين تحدّقان فيّ. وجدتني واقفًا دون وعي، أحدّق فيه متحديًا، وصرخت: "ماذا تريد؟!" ابتسم ابتسامة باردة، ووضع يده على كتفي قائلاً بصوت متقطع: ــ "لا تخف يا هذا." جلس بجواري، وضع ساقًا فوق الأخرى ببرود، وطلب مزيدًا من الكونياك. ثم همس وهو يحدّق في الظلام: "لن تفلت من يدي اليوم... لن تفلت!" شدّد على كلمة "اليوم" حتى رأيت أنيابه بارزة كحيوان مفترس. قبض على يدي فجأة وضغطها بعنف، وهو يصرخ: "أسمعت يا حضرة؟! أقسم أنها لن تفلت من يدي!" ثم ضرب المائدة بيديه كالمجنون، والتفت إليّ قائلاً: "أفاهم؟" تمتمتُ: "فاهم... فاهم." أدركت أنني أمام رجل مهووس خطر. حاولت التذرع بالانصراف، لكنّه قاطعني بخشونة: "لن تذهب... بل سترافقني." و أخرج من جيبه الخلفي مسدسا ضخما ، ألقاه على المائدة و أخذ يعبث به الرعب، لم يبقَ مني سوى عينين ترقبان أصابعه. بعد صمت مرعب، قال ببرود: "ما رأيك أن ترافقني إلى مكان الجريمة؟" أجبت سريعًا: "بالطبع، سأرافقك." أعاد المسدس إلى جيبه، وأخذ يسرد قصته بصوت يختلط فيه الغضب بالجنون: نشأ مع زوجته في بيت واحد، أحبها صغيرًا وشابًا ورجلًا. كانت كل دنياه، يقرأ في عينيها الصدق والإخلاص. لكنها بعد الزواج انقلبت إلى "نمرة مفترسة"، تذله وتجرّده من كرامته، حتى اتخذت لها عشيقًا. لم يقتلها، لم يطلقها، لم يطرد العشيق، بل عاش ثلاث سنوات يقدّم لها عشاقًا جددًا، ابتغاء مرضاتها! كان يضحك وهو يقول: "تخيّل! أنا الذي أبحث لها عن عشاق! ثم أنال عطفها... عطف السيدة على كلبها بعد أن يُثخنه بالسوط!" رأيته يبكي بحرقة، ثم يضحك كالمخبول. عينيه كانتا بقعتين من الدم تكادان تنفجران. ثم قال بصوت خافت يرقّ شيئًا فشيئًا حتى صار همسًا: ــ "ما زلت أحبها... بل يزداد حبي لها كل يوم. إنها ليست بشرًا، إنها جنية من نور وبلور. إلهة تتربع عرشها، وأنا ـ يا للعار ـ زوجها الحقير." ظلّ يناجي صورتها كالمُسحور. ثم فجأة صاح بحزم: "كفى! اليوم هو النهاية. منذ ثمانية أيام وأنا أهيم على وجهي كالكلب، بلا طعام إلا الخمر والفتات. لكني اليوم قوي بما يكفي لمواجهة جيش كامل. هيا، لقد حانت الساعة!" شدني من يدي، خرجنا مسرعين، ركبنا عربة، جلسني بجواره ممسكًا بذراعي كي لا أهرب. كنت كالصنم، أشهد مسرح جريمة يتشكل أمامي. اقتربنا من بيتها. اختبأنا عند السور. كان يلهث، يهذي بكلمات مبعثرة، يتحسس المسدس مرارًا. وفجأة أبرقت عيناه، همس في أذني: "ها هي!" نظرت، فإذا بسيدة حسناء تخرج من البيت متجهة إلى الباب. قفز نحوها ملوحًا بمسدسه. جزعت، ثم تمالكت نفسها، وابتسمت له في هدوء. خاطبته بلهجة تأنيب هادئة، فتراجع خطوة، ثم خطوتين... وفجأة رفع المسدس إلى رأسه، وأطلق رصاصة أردته صريعًا أمامها. سقط على الأرض جثة هامدة، بينما بقيتُ واقفًا مشلولًا، أنظر إلى المرأة التي لم تصرخ، لم تبكِ، بل اكتفت بابتسامة باردة... ابتسامة زوجة كانت تعلم أن حب زوجها سيقتله في النهاية.

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال