أزمة فراغ

أزمة فراغ
وقفت رجاء أمام مرآتها ، و كاميرتها ، بعد أن نضت عنها الثوب الخارجي ، و تأهبت لشحذ الأسلحة الفتاكة التي أمدنها بها الطبيعة ، و هي العملية التي يسمونها " التزين " من قبل التلطيف . و بدأت كعاداتها بتمشيط شعرها الكستنائي المسترسل ، و دار حوار شيق بديع بين المشط الذي تقبض على ناصيته خمسة أقلام من العاج الناصع ، و بين خصلات الشعر المتمردة ، هو يجوس خلالها في حفيف رقيق كحفيف التقاء الشفاه ، يمضي وئيدا مترفقا ، يستقيم حينا و يتعثر حينا آخر ، و هي تعابثه و تداوره حتى يخرج من الشوط خالي لوفاض ، خروج العاشق المدنف من غرام لا أمل فيه ، و لا رجاء . و لكن اليأس لا يتطرق إليها ، بل يعاود الكرة مرات و مرات ، و تعاود خصلات الشعر رده و صده ، و كأنما تضنيها المقاومة آخر الأمر ، فتستسلم في خدر حالم إلى دغدغة أسنانه اللامعة و تستكين إلى قبلاته الصامتة . و حتى وقت غير قصير ، حين انتهت رجاء من زينتها ، و اضفت على مفاتنها تلك الظلال الملونة الخلابة التي تضاعف من خطرها ، و تضمن لها النصر من الجولة الأولى ، و لم يبق إلا أن تختار الثوب الملائم . ووثقت أمام خزينة الثياب تستعرض مختلف الأزياء التي تقتنيها ، وقع اختيارها على ثوب أرجواني مكشوف الصدر و الذراعين ، إن جمالها يتألق على أتمه في هذا اللون . و ارتدته و أخذا تدور حول نفسها في المرآة حتى إذا استوثقت من استكمال عدتها لخوض المعركة ، خطر لها هذا السؤال ، و لكن أية معركة . و لم تحفل بالإجابة عن هذا السؤال إلا بهزة رشيقة من كتفيها ، و كانت قد شهدت هذه الحركة من مارلين مونرو على الستار الفضي ، فأخذتها عنها ، و تأنقت فيها حتى بدت أرشق من الأصل . و في الواقع أن رجاء لم يكن يعنيها تحديد المعركة التي تستخدم فيها أسلحتها الطاغية ،، أو تحديد ميدانها ، فهي – كغانية من غانيات الملاهي – تخوض كل يوم ألف معركة ، فإذا ظهرت في حفل و تفوقت على لداتها من الفنانات و الغانيات ، عدت هذا التفوق خروجا من المعركة ظافرة ، و إذا نجحت في أن تدر رأس رجل يجالس فتاة أخرى ، كان هذا في حسابها اكتساحا عظيما لتلك الفتاة فهي على هذا القياس في حرب مستمرة لا تتخيلها هدنة قط ، إن مؤهلاتها في الحياة هي فتنتها و هي جد حريصة على أن تعلن عن هذه المؤهلات بمختلف الوسائل لا لكي ترضي غريزتها كامرأة فحسب ، و لكن استلفات أنظار مخرجي السينما و منتجي الأفلام لتظفر بعقد سخي تواجه به نفقاتها التي تتكاثر و تتزايد يوما بعد يوم . و في هذا السبيل نضطر إلى ارتياد الملاهي و الحفلات الساهرة ، و التنقل من مكان على مكان حتى تعود إلى بيتها مع طلائع كوكب الفجر . و كان لابد من وجود من يرافقها إلى المكان الذي تقضي فيه سهرتها ، إن ذهابها بمفردها إلى السهرة أمر لا يتفق مع مكانتها ، و لا يتمشى مع التقاليد المرعية في الأوساط التي تعيش فيها ، أقل ان ترميها به ألسنة الناس ، إنها جاءت تبحث عن صيد جديد ، أو إنها فقدت جاذبيتها حتى نفر منها أصدقاءها و تباعد عنها المعجبون بها ، و لقد كانت دارها كعبة العشاق و المعجبين دائما ، في مختلف أوقات النهار ، حتى أطلق عليها بعض الأصدقاء اسم " خلية النحل " و لكن على الرغم من ذلك ، كانت الدار في أوقات كثيرة تقفر من زوارها ، تستشعر هي الوحدة التي لا تطيقها ، فتلتمس الأنيس عن طريق التليفون ، سرعان ما يخف إليها الأصدقاء ليذهبوا و حشتها ، و يؤنسوا وحدتها . و في هذه الليلة ، كانت الدار تعاني احدى أزمات الوحدة ، و كانت هي تعتز الفرار من هذه الوحدة المخيفة القاحلة التي تنذر بزوال دولة جمالها ، الفرار إلى أي مكان ، و إلى اية سهرة ، و برفة أي مخلوق . و ألقت بنفسها على أريكة تجاور التليفون ، و سهمت بعينيها في فضاء الحرة مقكرة ، من هو المحظوظ الذي تختاره لمرافقتها إلى السهرة . و حيد بك ؟ إنه رجل خفيف الظل حقا ، مبسوط اليد ، لكن عيبه أنه يحاول أحيانا أن يملي ارادته عليها ، و يصر على ارتياد أماكن معينة غير حافل برغبتها ، هي لا تطيق من الرجل أن يخالف لها أمرا ، و رغم ذلك فإنه متى ذهب إلى منزله فلا توجد قوة تحت السماء تستطيع اخراجه منه . الأستاذ وجدي ؟ نعم ـ إنه كلبها الأمين ، كما يلذ لها أن تدعوه ، و لكنه سوف يعتذر ، رغم تلهفه على مرافقتها ، ولو إلى جهنم ، لأن الشهر حوزا نصفه ، و الإفلاس يبدأ غزو جيوبه في أمثال هذا التاريخ . و مضت تستعرض الأسماء و الشخصيات ، فلم تلبث أن اختارت أربعة ، و أعملت أصابعها في قرص التليفون ، لتتصل بأقربهم إلى قلبها ، حت إذا لم تجده اصلت بمن يليه في المكانة ، هكذا . و لم تمض دقائق حتى تجهم ذلك الوجه المتهلل ، ضاقت العينان الواسعتان ، و انبعث منهما بريق الغضب و الحنث ، لقد اتصلت بالأصدقاء الأربعة الواحد بعد الآخر ، و من وجدنه منهم انتحل عذرا لا سبيل معه إلى زيارتها . ووثبت من جلستها كالنمرة الموتورة ، و مضت تذرع أرض الغرفة ، و قد شعرت بمهانة جارحة مست أدق نفطة حساسة عندها ، و هي الثقة بسلطانها على القلوب و العقول ، و استقرت أمام المرآة ، ة أخذت تتفحص الصورة الماثلة أمامها في دقة و امعان كأنها تراها للمرة الأولى ، إن فتنتها لاشك فيها و لا نزاع ، و إنها معجبة بنفسها حقا ، و اثقة من أنها تحفة نادرة ، هذه الثقة هي التي حملتها على ألا ترتبط بقيود الزواج ، لأن الرجل الجدير بأن توقف مفاتنها عليه لم يخلق بعد ! هكذا أثبتت لها التجارب ، فشل زيجاتها السابقة خير برهان على صدق نظريتها . و لكن ما فائدة هذه الثروة الضخمة من المفاتن إذا اعترضتهما أزمة كهذه التي تعانيه الليلة . و ما قيمتها إذا عز عليها أن تجد رفيقا يؤنس وحدها و يصحبها إلى السهرة . و تمشت في أرجاء جسدها رعدة قوية ، رعدة المرأة المقهورة التي عز عليها نفسها ، و هي التي اعتادت أن تأمر فتطاع ، و دار في ذهنها خاطر جزعت له أشد الجزع ، لئن كانت فترات الوحدة تقطع عليها أحلامها و هي ما تزال في قمة شبابها و ريعان جمالها ، فماذا عسى أن يكون من أمرها عندما يدير عنها الجمال و يولي الشباب ؟ و أرتدت عن المرأة ، و أنكفأت على الأريكة ، و أنشأت تبكي ، و تبكي ، وخففت الدموع من أزمتها النفسية ، ، و عادت تفطر من جديد ، على أي وجه تمضي سهرتها ؟ هل من الضروري أن تسهر في الخارج ؟ لماذا لا تتفي بالسهر لا في البيت ، و الساعة في طريقها إلى نصف الليل ؟ لتدع صديق أو صديقة لتناول بضعة كؤوس من الويسكي حتى يحين موعد رقادها . و عادت إلى التليفون تتصل بهذا و لتلك ، لكن على غير طائل ، لقد فشلت في أن تحمل واحدا منهم على زيارتها ممن أمكنها الاتصال بهم ، أما غالبية اصدقائها فلم تعثر على واحد منهم ، ما الذي يبقيهم في بيوتهم ليلبوا دعوته ؟ و هل هم يقصرون صداقتهم عليها وحدها و ألقت بالسماعة في يأس بالع ، ودارت بنظرتها في أنحاء الغرفة ، فخيل لها أن جدرانها تتباعد ، لتخلف فراغا شاسعا ، إنها وحيدة شريدة في هذا الفراغ و شعرت أن كيانها قد تتضاءل و انكمش حتى صار شيئا صغيرا تافها . و نهضت قائمة وهي توشك أن تجن ، هل تكاتف ضدها جميع من تعرفهم ، و اجمعوا على تركها وحيدة في هذه الليلة ؟ هل قضت عليها الظروف أن تعاني هذه الأزمة الخانقة ؟ و لكن لماذا لا تذهب إلى أي مكان . إنها ستجد أينما ذهبت أصدقاء و معارف ، و لكن كيف يتاح لها أن تنتقل إلى تلك الأماكن بمفردها، و هبها لم تجد من يتفرغ لمجالستها ، فكيف يكون موقفها . و أوشكت أن تجن ، و احست بأن جو الغرفة يطبق على صدرها، فخفت إلى النافذة لتفتحها ، لتهرب من وحدتها ، على الرغم من ان الشارع كان مقفرا إلا إنها أنست بعض الشيء ، إنها ألآن تكل على العالم ، إن في وسعها أن تجتاز المسافة من النافذة إلى الطريق ، و هر لا تزيد عن متر واحد ، فتبدد وحدتها القاتلة و طال وقوفها في النافذة ، و شعرت بحاجة عظمى إلى انسان ، أي انسان ، يخرجها من وحدتها، أي مخلوق يشفق عليها ، و تتحدث إليه ، لشد ما هي مشوقة إلى صوت آدمي يقرع سمعها . ها هي ذي تسمع خطوات عابر سبيل يسير على الرصيف المحاذي للنافذة ، إنه سيهيم بها حتما ، ما الذي يمنعها من أن تلتمس مجالسته ولو بعض الوقت ، إن هذا العمل بمثابة مغامرة طريفة ، نعم أن الناس لا يرونها كذلك ، و لكن .. أين هم الناس و اقترب عابر السبيل من النافذة ، و كانت الفكرة قد اختمرت في ذهنها فاندفعت تقول في صوت رقيق : كم الساعة الآن ، أرجوك و ذعر الرجل إذ لم يكن منتبها إلى وجوهها بالنافذة ، ولما تمالك نفسه ، تطلع إلى ساعته ، و رفع نظره إليها ، فراعه جمالها رغم قلة الضوء المنبعث من الغرفة ، وأجاب قائلا : إنها الآن ، الثانية عشرة و تسع دقائق بالضباط . ما أعجب هذا ، كنت أظنها الثالثة صباحا . لا ، لا يزال الوقت مبكرا لقد تركني جميع أفراد الأسرة بمفردي ، و لذلك أجدني خائفة . خائفة اعني خائفة قليلا إذ لم أتعود الوحدة ليس مال يدعو إلى الخوف يا سيدتي ، وفي امكاني أن ادعو جندي المنطقة و أوصيه بأن يلزم النافذة لكي ، لكي تطمئني و تلفت الرجل هنا و هناك يبحث عن البوليس ، فصاحت له قائلة : كلا ، كلا أ أشكرك ، هذا جرس الباب يدق ، لابد أنهم حضروا و حياها الرجل واسـتأنف سيره ، و هي تشيعه بنظرة كانت خليقة أن تصيب منه مقتلا برصاصة و هزت رأسه و هي تقول : يا له من غبي ، احمق و مضى نحو ربع ساعة قبل ان تسمع وقع خطوات عابر آخر ، وكان يدندن بالأغنية الشائعة : " أيه يعني لو ريحتني ، و عملت غيري لعبتك " و عندما اقترب من النافذة سمع من تـقـول : ألا يجوز أن غيرك لا يصلح لعبة بها مثلك ؟ وفوجئ الرجل ، وكان شابا في نحو الخامسة و العشرين من عمره ، فوقف و تطلع إليها ن فلاحظت أنه مخمور ،و لم يلبث أن أجاب قائلا : مين قال إني لعبة ؟ أنت تقول : أنا آه ، ها ها ، أنا أتمنى أن أكون لعبة ، و لكن في يد قمر مثلك فقط . بذمتك و هل تشكين في ذلك ، يا ذات الحسن و الجمال و هل كنت لعبة يوما ما ؟ كنت أكثر من مرة ، أوه لو قصصت عليك كيف كان ذلك لضحكت ساعات متوالية لشد ما احب أن اسمع إلى هذه المغامرات الطريفة . ليست مغامرات ، و لكنها مقالب نسائية قص علي واحدة منها ، و لكن لماذا تتكلم في الطريق ؟ الا يلذ لك تناول فنجان قهوة مثلا : فأجاب الشاب وهو يبتعد قائلا : ليس الليلة ، فإني أولا لست على استعداد للسهر أكثر من ذلك ، ثانيا أنا لا أحب القهوة ، ثالثا : سلام عليكم . و مضى يجد السير كأنما يفر من خطر داهم . و استبد بها الحنق ؟ ماذا ؟ أ يعزم عليها حتى اجتذاب عابر سبيل ؟ و أبت أن تتراجع عن النافذة إلا إذا ظفرت ببغيتها ، و لكنها باءت بالفشل الذريع مع عابري السبيل الذين مروا بها بعد ذلك ، كان كل منهم ينتحل عذرا للفرار منها ، و هي ، و هي رجاء التي يترامى على أقدامها المعجبون من اصحاب الشخصيات البارزة ، و هى ، هي التي أذابت بين يديها ثروات طائلة . و شعرت بالهوان و المذلة و هي ترتد عن النافذة ، لقد أعرض عنها المارة ، و كـنها حشرة مؤذي ة ، فياللعار لم تجد بين عابري السبيل من يرضى بضيافتها ، هي التي لم تتعود أذناها إلا ألحان الصبابة و الغزل و موسيقى الوجد و الهيام من محبيها ، إنهم إذن كاذبون منافقون ! إنها ليست حسناء و لا امرأة ، و لا شيء أبدا ، و أنكفأت على وجهها فوق أريكة و هي تنشج ، و لم تلبث أن راحت في نوم عميق أنقذها من م\جنون محقق .

مدونة فكر أديب

مرحبًا! أنا كاتب متحمس للاكتشاف والتعلم، وأجد الإلهام في تفاصيل الحياة. أحب القراءة والغوص في عوالم جديدة من خلال الكتب، والكتابة تعبر عن أفكاري ومشاعري. تجربتي الطويلة قد أكسبتني ثراءً في الفهم والتحليل. أنا هنا لمشاركة تلك الخبرات والتفاصيل الجميلة مع الآخرين. دعونا نستمتع معًا بسحر الكلمات والأفكار.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال