السودان:
شهادات مروعة عن نساء تعرضن للاغتصاب والاختطاف في خضم الحرب
دراسة نفسية اجتماعية حول العنف الجنسي في سياق النزاع المسلح
مقدمة: مأساة إنسانية تتجاوز حدود الحرب
يشهد السودان واحدة من أعنف المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، حيث تتقاطع النزاعات المسلحة مع انهيار البنى الاجتماعية، لتخلق بيئة خصبة للعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي. ومع دخول الصراع عامه الثالث، تتعمق الجراح في المجتمع السوداني، لا سيما بين النساء والفتيات اللواتي أصبحن هدفًا مباشرًا للعنف والاضطهاد والاستغلال الجنسي.
أكثر من 12 مليون شخص مهددون بخطر العنف الجنسي، في ظل انهيار الخدمات الصحية والنفسية وغياب العدالة والمساءلة. وفي هذا السياق، تتحول أجساد النساء إلى ساحات حرب، وتغدو الكرامة الإنسانية نفسها رهينة الصراع المسلح.
أولاً: ملامح الأزمة الإنسانية وتداعيات النزوح الجماعي
أدت الحرب إلى أكبر أزمة نزوح في العالم، إذ اضطر أكثر من 12 مليون شخص إلى ترك منازلهم، بينهم عدد هائل من النساء والأطفال الذين يعانون من فقدان المأوى والأمان والغذاء. يعيش هؤلاء في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، وتتحول مع مرور الوقت إلى بؤر للعنف والانتهاكات.
تقول مروة*، وهي ناشطة سودانية تعمل مع منظمات نسائية محلية بدعم من صندوق المرأة للسلام والعمل الإنساني:
"لقد فقدت النساء كل شيء، من مصادر الدخل إلى الإحساس بالأمان. الحرب دمرت المصانع والأسواق ووسائل النقل، وأوقفت الحياة الاقتصادية، مما جعل النساء أكثر هشاشة أمام الاستغلال والعنف."
إنّ انهيار الاقتصاد والنزوح الإجباري وانفصال الأسر كلها عوامل تؤجج هشاشة البنية الاجتماعية وتدفع النساء إلى مواجهة مصير قاسٍ، حيث يتداخل الفقر بالعنف والوصمة والخوف.
ثانياً: العنف الجنسي كسلاح حرب
تستخدم الأطراف المتصارعة في السودان العنف الجنسي كسلاح لإذلال المجتمعات وتفكيك نسيجها الداخلي. وتؤكد تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أن العنف الجنسي في السودان ارتفع بنسبة 288% بين ديسمبر/كانون الأول 2023 وديسمبر/كانون الأول 2024، في مؤشر صادم على تفاقم الأزمة.
تروي مروة أن ما يحدث ليس مجرد تجاوزات فردية، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى "هزيمة الناس نفسياً وجعلهم يستسلمون". وتقول:
"إنها ليست فقط عمليات اغتصاب، بل محاولات متعمدة لتدمير الكرامة. يتم اختطاف الفتيات، تزويجهن قسراً، أو استعبادهن جنسياً. الهدف هو تدمير العائلة والمجتمع من الداخل."
في مجتمع محافظ مثل السودان، يصبح الاغتصاب وصمة تهزّ أركان العائلة كلها. كثير من الفتيات يُقدمن على الانتحار خوفاً من العار، فيما ترفض أخريات تلقي العلاج خوفاً من الفضيحة، كما في قصة الجدة التي اغتُصبت على يد شباب أصغر منها ورفضت العلاج لأنها "لم تُحترم كجدة".
ثالثاً: مجزرة مخيم زمزم – العنف في أقصى تجلياته
كشفت صحيفة غارديان البريطانية عن واحدة من أبشع المذابح التي شهدها السودان في السنوات الأخيرة، حين شنّت قوات الدعم السريع هجومًا على مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور خلال أبريل/نيسان الماضي، مما أدى إلى مقتل أكثر من 1500 مدني في غضون 72 ساعة فقط.
ووفقًا لشهادات الناجين، فقد شهد المخيم عمليات إعدام جماعي واغتصاب وخطف ونهب، في تكرار مأساوي لجرائم الإبادة الجماعية التي شهدها الإقليم في العقد الأول من الألفية.
تقول إحدى الناجيات:
"ذبحونا مثل الحيوانات. رأيتهم يسحبون أختي من بيتها ويقتلونها أمامي."
بينما تروي "فاطمة بخيت"، الحامل التي فقدت زوجها وطفليها في الهجوم:
"حملت بقايا جسد طفلي بين يديّ. لم أشعر بشيء، ولا حتى الجوع."
ويصف شهود العيان أن قوات الدعم السريع اقتحمت المدارس والعيادات وأعدمت الأطفال والنساء. في المقابل، برزت مواقف بطولية كقصة الطبيبة هنادي داود (22 عامًا) التي رفضت الفرار وقاتلت بسكين مطبخ دفاعاً عن الجرحى حتى قُتلت. أصبحت هنادي رمزاً لجيل من الشابات السودانيات اللواتي واجهن العنف بالشجاعة والإصرار.
رابعاً: التحليل النفسي والاجتماعي للعنف الجنسي في السودان
من منظور نفسي اجتماعي، يُعتبر العنف الجنسي في حالات النزاع أداةً لتدمير الهوية الفردية والجماعية. فهو لا يستهدف الجسد فحسب، بل يسعى إلى تدمير الروح، وكسر إرادة الضحية والمجتمع.
إنّ تكرار الاغتصاب الجماعي، والزواج القسري، والاستعباد الجنسي، يؤدي إلى اضطرابات نفسية حادة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والاكتئاب، وفقدان الثقة بالنفس، والشعور بالعار والذنب، وهي كلها أعراض تترك آثاراً طويلة المدى على الضحايا والمجتمع بأسره.
من الناحية الاجتماعية، يُسهم هذا النوع من العنف في تفكيك البنية الأسرية، حيث ترفض بعض العائلات الضحايا بسبب الوصمة، مما يزيد من عزلتهن ومعاناتهن. كما أن غياب العدالة وغياب الدعم النفسي الرسمي يؤدي إلى استمرار دائرة العنف، حيث تصبح الضحايا عرضة لمزيد من الاستغلال.
تقول الباحثة النفسية "منى رشماوي":
"يجب أن تقع مسؤولية العار على الجناة لا على الضحايا. إن الوصمة الاجتماعية تزيد من الألم وتمنع الشفاء. يجب إنشاء آليات لدعم الضحايا طبياً ونفسياً وقانونياً على الفور."
خامساً: مسؤولية المجتمع الدولي وآليات العدالة الغائبة
أكدت بعثة تقصي الحقائق الدولية أن قوات الدعم السريع ارتكبت انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الاغتصاب والتعذيب والاستعباد الجنسي والاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي والانتماء العرقي.
ورغم إدانات الأمم المتحدة والعديد من الدول، لم تتخذ إجراءات فعالة لوقف الانتهاكات أو معاقبة المسؤولين عنها. وتدعو تقارير حقوقية إلى توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل كامل السودان، وإنشاء آلية قضائية مستقلة تعمل بالتوازي معها.
يقول رئيس البعثة، محمد شاندي عثمان:
"لا يوجد مكان آمن في السودان الآن. ما نراه هو انهيار شامل لكل مظاهر الحماية المدنية، والعنف الجنسي أصبح سلاحاً منظماً لترويع السكان."
وتشير التقارير إلى أن النساء والفتيات لا يجدن أماكن آمنة للحصول على الرعاية الطبية أو الدعم النفسي، لأن معظم المستشفيات والمراكز الصحية قد دُمرت أو نُهبت. كما أن الخوف والعار يمنعان الكثيرات من الإبلاغ عن الجرائم.
سادساً: نحو مقاربة شمولية للشفاء وإعادة البناء
لمعالجة هذه المأساة، لا يكفي التنديد بالعنف أو المطالبة بالمحاسبة. يجب تبني مقاربة شمولية تشمل:
1. إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا عبر مراكز متخصصة تقدم العلاج النفسي والدعم القانوني.
2. تمكين النساء اقتصاديًا لتجاوز آثار الحرب واستعادة استقلاليتهن.
3. إصلاح الخطاب الثقافي والديني الذي يربط الشرف بجسد المرأة، بما يخفف من الوصمة الاجتماعية.
4. إنشاء منصات وطنية ودولية للتوثيق والمساءلة لمنع الإفلات من العقاب.
5. إدماج الرجال والفتيان في برامج التوعية لمحاربة العنف القائم على النوع الاجتماعي وبناء ثقافة المساواة.
إن دعم الضحايا ليس عملاً خيرياً بل ضرورة أخلاقية وإنسانية، لأن استمرار الصمت يعني تطبيع الجريمة وتحويل الألم إلى عادة اجتماعية.
خاتمة: صرخة من أجل إنقاذ الكرامة الإنسانية
ما يجري في السودان ليس مجرد حرب بين طرفين، بل حرب ضد الإنسانية نفسها. جسد المرأة السودانية أصبح شاهداً على العنف، وحاملاً لذاكرة جماعية من الألم والصمود في آن واحد.
من بين الركام والدمار، ما تزال أصوات النساء ترتفع، تطالب بالعدالة والكرامة، وتقاوم الخوف بالصبر والعمل الجماعي.
تقول مروة في ختام شهادتها:
"فقط تماسكن، واصلن العمل. أنشئن مبادراتكن، وثقن أنكن تبنين السلام."
هذه الكلمات تختصر مأساة جيل كامل، لكنها في الوقت ذاته تفتح باب الأمل. فبينما يحاول البعض سحق الكرامة، تواصل نساء السودان إعادة بناءها من جديد، حجرًا فوق حجر، ودمعة فوق أخرى، في انتظار فجرٍ تُستعاد فيه العدالة والإنسانية.