![]() |
ستي |
هكذا كنا نناديها ، رغم أني
أعرف اسمها الذي قالته أمي أكثر من مرة " بحر الزين " اسم غريب ، و قد
فسرته أمي أيضا أنها من جذور سودانية ، و إنها اختطفت من أهلها و هي صغيرة ، و
بيعت في مصر للخديوي الذي أهتم بها و بغيرها من الفتيات بتعليمهن اللغة العربية ، ثم اللغة الفرنسية ،
ثم أدخلهن مدرسة الطب المصرية ليكونوا حكيمات .
و الحق يقال إنني كنت
أصدق أمي فيما تقول لعدة أسباب ، منها ؛ أن أمي لم تكن تكذب فهي صادقة في كل ما
تقول ، و السبب الثاني أن لون بشرة ستي ( جدتي ) كان بني غامق ، مثل القهوة
التركية ، و هو لا يميل إلى السمار القمحاوي المصري .
المهم كانت ستي قد دخلت
في أرذل العمر ، فقد كانت لا تخرج من غرفة أخواتي البنات ، و كانت تجلس على السرير
دائما ، إلا في بعض الأوقات عندما تأخذها أمامي للحمام لتقضي حاجاتها أو
تستحم .
كنت في الليل أجلس
بجانبها على السرير لتقص علينا حكاية من
حكاياتها ، و كانت أختي الكبرى تضحك و هى
تقول ، نحن نقرأ " ألف ليلة و ليلة " و جدتي تقول " ألف حكاية و حكاية
" و أقول أنها لم تكن ألف حكاية ، بل
تزيد عن هذا العدد ، و من الطريف أنها لم تعيد أي حكاية من الحكايات التي كانت
ترويها ، بل كل يوم حكاية جديدة ، سواء اكتملت لنا أو لم تكتمل ، فقد كان النوم
يغلب علينا ، و كنت دائما أنام في حضنها ، فإذا ما أرادت أمي أن تنقلني إلى السرير نهرتها ، و قالت لها : إن
ملك النوم معه الآن ، فتركتني أمي ، و
تعود إلى غرفتها بعد أن تغطي أخواتي البنات .
كانت ستي تحبني لأنني
كنت رؤوفا بها رحيما ، فأحضر لها الفاكهة من المطبخ لتأكلها ، وترفض في دلال ما تقدم أمي لها بحجة
إنها ليست جائعة ، و تضحك أمي و هي تنصرف ، فعي تعرف إنني كنت أسطو على الفاكهة و
أقدمها لستي بعد أن أقشرها لها .
كانت تداعب شعري بأناملها
المرتخية ، فأشعر بخدر في جسدي، وأشعر إنني أحلم أحلام اليقظة .
ذات يوم بينما كانت تحكي
لهنا حكايتها ، و كنت قد نمت كالعادة ، سمعت حشرجة تصدر منها ، فأسرعت إلى أختي
الكبرى أيقظها ، التي أسرعت و نادت أمي ، و حينما وصلت أمي كانت جدتي قد أصبحت جثة
هامدة .
طلبت أمي منا جميعا أن
نخرج خارج الغرفة , أن نجلس في الصالة ، و
أسرعت إلى أحد إخواني الصبيان ، و طلبت منه أن يستدعي الحانوتي ، و أن يحضر
معه واحدة ست لكي يغسل أمي ، فعرفت حين ذاك أن ستي قد ماتت ، لقد خطفها ملك
الموت من بيننا .
لم أسمع صواتا كما يحدث عند
الناس ، بل كنت أرى أمي تبكي و تتشنف بصوت
عالي بعض الشيء ، و لم أكن أسمع أصواتا أو عويلا إلا عندما يدخل الغرباء إلى بيتنا
، للوقوف بجاني أمي ، فقد كان أبي ينهي النساء عن العويل و اللطم .
و في اليوم التالي أخذوا
في تابوت خشبي جثة ستي التي جاوزت التسعين إلى المقبرة ، و تم دفن الجثة ، و بدأ
محترفو قراءة القرآن في التوافد ، يقرأون القرآن كل يقرأ ما يحفظ ، فلا تكاد تسمع
إلا همهمات تصدر منهم .
اختفت ستي من البيت ، و
رجعت إلى غرفة إخواني الصبيان ، و كنت أنظر كل يوم إلى سريرها الفارغ ، حتى قرر
أبي أن يبيع السرير لأنه لمحني أبكي .
اختفت ستي و اختفت
حكاياتها التي كنت أنام عليها ، و الآن و قد أصبحت أنام منفردا كنت أستيقظ أكثر من
مرة ، و أذهب إلى حجرتها ، إلى أن نهاني أبي عن ذلك .